أ.د. حسني نصر
حدث ما كنا نخشاه وحذرنا منه في مقالات فائتة في هذا المكان، وفشلت كل التطمينات التي قدمها الرئيس أوباما، والجهود التي بذلتها الحكومة السعودية عبر شركات علاقات عامة أمريكية كبرى، وأطاح الكونجرس الأمريكي الأربعاء الفائت علي غير العادة بالفيتو الرئاسي، واصدر قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" او قانون "جاستا"، الذي يتيح لعائلات ضحايا الحادي عشر من سبتمبر 2001 مقاضاة الدول التي ينتمي اليها خاطفو الطائرات التي ضربت برجي مركز التجارة في نيويورك ومبني البنتاجون في واشنطن، وعلي رأسها المملكة العربية السعودية والحصول منها علي تعويضات.
بقليل من التحفظ يمكن الزعم بان قانون (11 سبتمبر) الذي أقره الكونجرس الأمريكي الأسبوع الفائت سوف يكون حدا فاصلا يؤرخ لعهد جديد في العلاقات الدولية قد تسقط فيه حصانة الدول التي أقرتها الاتفاقات والأعراف الدولية التي تمنع ملاحقة الدول أمام محاكم محلية، منذ مئات السنين.
العلاقات الامريكية العربية وعلي وجه التحديد علاقات الدولة العظمى بدول الخليج العربي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية هي المستهدف الأول من القانون الأمريكي الجديد الذي أجاز الملاحقة القضائية داخل الولايات المتحدة للدول الأجنبية في قضايا الإرهاب، على خلفية أن خمسة عشر من خاطفي الطائرات في أحداث سبتمبر كانوا من رعايا المملكة، كما قد يمتد الأمر فيما بعد إلي دولة الإمارات العربية المتحدة التي شارك اثنان من مواطنيها في الهجوم، وكذلك لبنان ومصر اللتين أتي منهما اثنان من الخاطفين.
حاول الرئيس أوباما منع صدور القانون باستخدام حق النقض الذي يمنحه إياه الدستور الأمريكي في حال الخلاف مع الكونجرس، لكنه فشل فشلا ذريعا أمام إصرار النواب والشيوخ على إصداره لشراء أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية التي تجرى الشهر المقبل ، ورضوخا لجماعات الضغط الصهيونية التي تسعى إلى تغيير معادلة العلاقات مع العرب وضرب أكثر هذه العلاقات صلابة مع السعودية.
السؤال الذي يطرح نفسه بعد إقرار القانون لا يتصل فقط بما يمكن أن يترتب عليه بالنسبة للسعودية وعلاقتها بالولايات المتحدة، ولكن أيضا بتأثيراته المستقبلية على النظام الدولي برمته. فالقانون الأمريكي يفتح الباب واسعا لإقرار قوانين مماثلة في دول كثيرة عانت من إرهاب دول أخرى خاصة الدولة الامريكية منذ خروج المارد الأمريكي من القمقم في نهاية الحرب العالمية الأولي، ومن بينها بالطبع دول عربية عديدة حاصرتها أمريكا اقتصاديا سنوات طويلة ومنعت الحليب عن أطفالها، وغزتها الجيوش الامريكية وقتلت الملايين من أبنائها ودمرت بنيتها الاساسية وإعادتها إلى العصور الوسطي، وما زالت تصطلي بنار هذا الإرهاب الأمريكي مثل العراق وسوريا وليبيا. من حق هذه الدول أن تقر هي الأخرى قوانين تتيح لمواطنيها مقاضاة الدولة الامريكية على الجرائم التي ارتكبها جيشها وجنودها فوق الأراضي العربية.
في مواجهة هذا القانون فان الغضب وحده لا يكفي، ولا يجب أن يترك العرب السعودية وحدها بأي حال وان يتضامن معها الجميع في الصراعات القانونية المتوقعة. صحيح انه ليس هناك أدلة على تورط الحكومة السعودية في أحداث سبتمبر بعد مرور خمسة عشر عاما عليها، وبخاصة وان التحقيق الذي أجراه الكونجرس والوثائق الخاصة التي تم الكشف عن جزء منها لم تتضمن أية اتهامات تشير إلي تورط سعودي رسمي في الأحداث، وصحيح أيضا أن القضايا التي سترفعها عائلات ضحايا هذه الأحداث قد تأخذ وقتا طويلا في المحاكم التي قد تسقطها لاعتبارات تتصل بسلامة القوات الامريكية في الخارج، ولكن استمرار القانون يعني فتح باب لا يمكن إغلاقه لابتزاز السعودية وغيرها من الدول العربية سياسيا واقتصاديا. إذ بمجرد فتح الطريق لإقامة دعاوى قضائية ضد حكومة المملكة يستطيع المحامون الذين يشكلون جماعة ضغط أخرى ونافذة أن يطلبوا تجميد الممتلكات السعودية لحين الفصل في هذه الدعاوى، كما أن التعويضات قد تصل حسب تقديرات غير رسمية إلى نحو تريليون دولار.
إن أفضل مواجهة للقانون الأمريكي لا تكون فقط بسحب الاستثمارات السعودية من الولايات المتحدة وإعادة النظر في مجمل العلاقات العربية-الامريكية، ولكن بمعاملة أمريكا بالمثل، انطلاقا من مبدأ أن البادئ أظلم، وذلك بإقرار مثل هذه القوانين في كل الدول العربية سواء تلك التي تعرضت لتدخل عسكري أمريكي مباشر دون تفويض من مجلس الأمن الدولي او تلك التي تعرض ويتعرض أبنائها للقتل بأسلحة أمريكية تقدمها الولايات المتحدة للعدو التاريخي للامة العربية إسرائيل او لأنظمة حكم عميلة لها توجهها ضد شعوبها. من حق كل عراقي قتل ذويه منذ الغزو الأمريكي للعراق وحتى اليوم أن يقاضي الدولة الامريكية، ومن حق كل فلسطيني في الأراضي العربية المحتلة فقد ابنا او أخا او عزيزا لديه بسلاح أمريكي منذ النكبة وحتى الآن أن يحصل على تعويض عادل من حكومة الولايات المتحدة.
لقد فتحت أمريكا بهذا القانون النار على نفسها، إذ ليس العرب فقط من اكتووا بنار جهنم الامريكية، ولكن هناك ملايين اليابانيين والفيتناميين والكوريين والفلبينيين الذين يمكنهم مقاضاة الحكومة الامريكية على كل روح أزهقت في الحروب الدموية التي شنتها عليهم.
علينا أن نبادر إلى فعل عربي مشترك، ولو على سبيل التهديد بإقرار قوانين مماثلة ضد الإرهاب الأمريكي، قبل أن تمتد نيران القانون الجديد إلى دول عربية أخرى تطمع أمريكا في أموالها او تريد إخضاعها لإرادتها. وعلينا أن نسأل أنفسنا: إذا كانت الولايات المتحدة قد فعلت ذلك ودون دليل دامغ مع حليفتها الأكبر في المنطقة العربية التي تربطها بها علاقات صداقة وتعاون قوية منذ أكثر من سبعة عقود وحتى اليوم، فماذا هي فاعلة مع غيرها؟
أكاديمي في جامعة السلطان قابوس