أزمة النفط ودرس فنزويلا

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٨/سبتمبر/٢٠١٦ ٢٢:٢٢ م
أزمة النفط ودرس فنزويلا

أ.د. حسني نصر

في أوقات الأزمات تحشد الدول كل إمكاناتها للتعامل مع الأزمة وإدارتها بطريقة رشيدة تمكنها من تجاوزها بأقل الأضرار، بل والاستفادة منها في مراجعة الخطط وتصويبها ووضع خطط جديدة كفيلة بعدم تكرار الأزمة في المستقبل. ونتيجة لذلك تتراكم لدي الدول والمجتمعات خبرات جيدة في إدارة الأزمات تستعين بها في التنبؤ بالأزمة الجديدة قبل وقوعها ومن ثم علاجها من المنبع ومحاولة تلافيها، وفي حال وقوعها يكون لديها الاستراتيجيات والخطط اللازمة لإدارتها وتقييمها فيما بعد.
ويمكن التمييز هنا بين الأزمات الطبيعية الطارئة مثل الكوارث الطبيعية كالفيضانات والأعاصير والزلازل وانفجار البراكين، وبين الأزمات والكوارث البشرية كانهيار الأبنية والجسور وحوادث الطائرات والقطارات والأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يصنعها الإنسان بنفسه. وفي كل الأزمات تحشد الدول كما قلنا كل إمكاناتها لعلاج الأزمة الطارئة ويتكاتف الجميع لعبور كل المطبات التي تعترض المجتمع لتجاوز الأزمة وعودة الأوضاع الطبيعية إلى ما كانت عليه قبل الأزمة وربما لأفضل مما كانت عليه.
ربما تكون أزمة انخفاض أسعار النفط الحالية من أخطر الأزمات التي يواجهها العالم، وبالأخص الدول المنتجة للنفط التي وجدت نفسها بين ليلة وضحاها تعاني من عجز كبير في العائدات، وهو ما تركت آثاره بالتأكيد على خطط التنمية والإنفاق الحكومي ودفع معظمها إلى اتخاذ إجراءات بعضها يتعلق بخفض الدعم الحكومي للسلع والخدمات او بفرض ضرائب جديدة ووقف التوظيف الحكومي. ورغم تباين التأثيرات واختلافها من دولة إلى أخرى، فإن الأمر المؤكد أن كل الدول التي تنتج النفط دخلت مرحلة المعاناة من هذه الأزمة التي لا يعلم أحد إلى متى ستطول؟ وإذا كانت دول العالم والمنتجون الكبار يبحثون عن حلول تعيد لها بعض ما فقدته من عائدات، فان كل دولة على حدة أصبحت تبحث بنفسها عن علاج لما ترتب على الأزمة من تداعيات اقتصادية.
تقدم دولة مثل فنزويلا درسا مهما لكل الدول النفطية التي تسعي إلى البحث عن مخرج من الأزمة الحالية التي تمر بها أسعار النفط، فهذه الدولة اللاتينية التي كانت وما زالت تحتل مكانة متميزة داخل منظومة الدول المصدرة للنفط "أوبك"، تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم يصل إلى 296 مليار برميل تمثل 24.8% من الاحتياطات العالمية، وتفوقت بذلك على المملكة العربية السعودية التي ظلت لسنوات طويلة الدولة الأولي في الاحتياطات النفطية. أما على صعيد الإنتاج فان فنزويلا تحتل المركز التاسع عالميا وتعد بذلك من أكبر منتجي النفط في العالم، وواحدة من الدول التسعة التي بمقدورها تزويد العالم بأكثر من نصف احتياجاته من البترول. كانت فنزويلا حتى وقت قريب تنتج أكثر من ثلاثة ملايين برميل يوميا، إلا أنها في السنتين الأخيرتين واجهت مشكلة جديدة تتمثل في انخفاض الإنتاج النفطي ليصل إلى أقل مستوى له في الخمسة عشرة عاما الأخيرة بسبب سوء الاستثمار في مجال النفط وسوء الإدارة. وتراجع إنتاجها من النفط الخام في العام الأخير ليصل إلى 2.3 مليون برميل يوميا تحتل بها المركز التاسع في قائمة الإنتاج العالمي اليومي بعد روسيا والسعودية والولايات المتحدة الامريكية وإيران والصين وكندا والعراق والإمارات، وبنسبة تصل إلى 3.5% من الإنتاج العالمي،
الذي حدث في فنزويلا هو درس شديد الأهمية. ففي دولة يدر النفط فيها أكثر من 94% من إيرادات الدولة من العملة الصعبة كان يجب أن تكون مستعدة لمثل هذه الأزمات المتوقعة في أسعار سلعتها الرئيسية، من خلال خطط عملية لتنويع مصادر الدخل القومي، خاصة وأنها تمتلك موارد أخرى كثيرة تم إهمالها في سنوات صعود أسعار النفط، مثل الزراعة والصناعة والتعدين. وعندما اشتدت الأزمة بدأ البحث عن مخرج آمن لتعويض نقص العائدات والاستمرار في السياسات الاجتماعية التي تقدمها الدولة لسكانها البالغ عددهم نحو 30 مليون نسمة. لم تجد الحكومة في كاراكاس الكثير لتفعله، وتخبطت سياساتها في علاج الأزمة التي نظرت إليها على أنها أزمة عملة صعبة حرمت منها، فاتجهت مؤخرا إلى دعم قطاع السياحة لتعويض تراجع عائدات النفط وتعويض النقص الحاد لديها في العملات الصعبة، خاصة وأنها تستورد تقريبا كل ما تستهلكه وتحتاج إلى دولارات لتمويل عمليات الاستيراد. وبسبب السياسات المالية العاجزة من المتوقع استمرار الأزمة خاصة وان السياح على قلة أعدادهم يواجهون مشكلات تتعلق بوجود أكثر من سعر للعملة التي يحملونها في السوق الرسمي وعبر البنوك وفي السوق الموازي، وبالتالي لن تستطيع السياحة وحدها تقديم الحل وأصبحت البلاد كما يقول المراقبون على شفا اضطراب اقتصادي وسياسي قد يحمل في طياته بذور أعمال عنف.
الواقع أن ما تفعله فنزويلا الآن يعيدنا إلى الحديث عن خطورة أزمة انخفاض أسعار النفط الحالية إذا لم يتم التعامل معها بسياسات وأفكار جديدة ومن خارج الصندوق الضيق الذي لا يتضمن سوى تنشيط قطاعات صغيرة او فرض ضرائب جديدة على المواطنين؟ تأخرت فنزويلا وكذلك دول نفطية عديدة كثيرا في الاستعداد لهذه الأيام الصعبة، كما تأخرت عن إدراك حقيقة أن سوق النفط العالمي غير آمن وتتحكم به قوى كبري، وتنبهت مؤخرا إلى أهمية تنويع مصادر الدخل في وقت مبكر وعندما كانت أسعار النفط تفوق المائة دولار للبرميل، فأصبحت تواجه الآن ليس فقط مشكلة اقتصادية حادة ولكن أيضا مشكلات سياسية واجتماعية قد تقود إلى اضطرابات شعبية. إن ما تمر به فنزويلا حاليا يؤكد ضرورة النمو المتوازن لكل قطاعات الإنتاج في الدولة وعدم الاهتمام بقطاع على حساب القطاعات الأخرى، لقد كانت الصناعة تسهم بنحو 17 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في فنزويلا في السنوات الأولي من العقد الماضي وكان لقطاع الصناعات الثقيلة مثل الصلب والألومنيوم والإسمنت دورا في التصدير وتوفير العملة الصعبة، ومع ذلك تم إهماله في فترة الصعود النفطي، وهو الإهمال الذي تدفع فنزويلا ثمنه الآن.

أكاديمي في جامعة السلطان قابوس