العالمُ المُتَمَعْدِن(!)

مقالات رأي و تحليلات السبت ٠٣/سبتمبر/٢٠١٦ ٢٣:٥٥ م
العالمُ المُتَمَعْدِن(!)

زاهي وهبي

اليوم يتم إعلان الأم تيريزا قديسةً للفقراء، هذه الراهبة التي أفنت عمرها في خدمة الناس، لم تسأل عن دياناتهم ولا عقائدهم ولا ألوانهم ولا أعراقهم أو جنسياتهم، نذرت نفسها للإنسان وعاشت حياتها متجولة في بقاع الأرض الأكثر بؤساً حتى أمست رمزاً لِكلِّ مَن يبذل نفسه وعمره في خدمة المقهورين والمظلومين والمُستضعَفين، وصار بَعضنا يضع صورتها إلى جانب صور الثائرين والمناضلين الأممين المناهضين للظلم والطغيان، الساعين إلى إحقاق الحق وبسط العدالة في عالم يلقي بثقله على الفقراء، حيث تحتكر ثروات الأرض قلّة قليلة من الجشعين الذين كلما ازدادت ثرواتهم سعوا إلى المزيد، يكنزون الذهب والفضة ولا يبالون بحياة الملايين من الجوعى والعطاشى على امتداد المعمورة.
أي حضارة، وأي تَمَدُّن ذاك الذي يدعيه عالمنا المعاصر المحكوم من شركات السلاح والنفط والأدوية. الأصحّ أن يكون اسمه العالم "المتمعدن" (نسبةً إلى المعدن البارد الصلب القاسي). تلك الدول الكبرى المسماة عالماً أول ومجتمعات متحضِّرة، أليست هي المسؤولة عن إثارة الحروب والنزاعات وصناعة السلاح الفتَّاك وبيعه للمتحاربين في أرجاء المعمورة؟ أليست هي مَن يحوِّل البلدان الضعيفة مختبراتٍ وساحاتٍ تُجرِّبُ فيها وعليها وعلى شعوبها الأجيال الجديدة من الأسلحة؟ هذه أجزاء واسعة من بلادنا العربية أمست ميادين حروب وصراعات مدمرة (نُذكِّرُ دائماً أننا لا نبرؤ أنفسنا مما يُصيبنا) بتدبير وتخطيط من تلك الدول التي لا يهتز لقادتها رِمش حيال مقتل الملايين من الناس أو تشريدهم في رياح الأرض الأربع. العزاء الوحيد على هذا الكوكب الموحش يتمثَّل في وجود أشخاص كالأمّ تيريزا ممن يمسحون دمعة ويبلسمون جرحاً ويسدون رمقاً، عدا ذلك يبدو الكوكب في أكثر مراحله وحشيةً وانحطاطاً. فما معنى المدنية والتمدن إذا كانت بداية القرن الحادي والعشرين حروباً متصلة على هذه البقعة من الأرض؟ هل كان يتصوَّر أحدنا في أسوأ كوابيسه أن تُقطع الأعناق ويُحرَق البشر وتُسبى النساء وتُدمَّر البيوت على رؤوس ساكنيها ويغرق الأطفال في عرض البحر على مرأى من عالم لا يُحرك ساكناً غير القلق المُقرِف المُكلَّف به بان كيمون؟
أليس دليلَ انحطاط ودرْك أسفل أن يتلهى العالم بلعبة "بوكيمون" ويهتم بها أكثر من اهتمامه بمصرع مئات المدنيين كل يوم؟ ما هي الوحشية؟ أَهِيَ وقفٌ على القتل بالسيف والسكين، فيما القتل بأحدث المقاتلات النفّاثة والبوارج العملاقة والصواريخ العابرة للقارات دليل تقدُّم وتمدُّن. ولئن كان هذا هو الشكل الأوضح للقتل، ماذا عن الأشكال الأخرى، ماذا عن التجويع والإفقار وسرقة ثروات الشعوب وتبديد خيراتها في حروب لا طائل منها ولا جدوى سوى ملء خزائن شركات السلاح والنفط والأدوية، ماذا عن الفساد المستشري والمافيات الدولية والشركات المتعددة الجنسيات الشرهة إلى حدِّ الرغبة بالتهام الكوكب برمَّته، ثمة دماء حمراء قانية تسيل، لكن للأسف ليست كل الدماء حمراء، ثمة دماء لا مرئيّة يسفكها القتلة كل لحظة، دماء تأخذ ألواناً مختلفة مثل الظلم والقهر والأسى.
للأسف يُطحَن الإنسان المعاصر بين رحى "داعشييتين"، داعشية التطرّف الديني المجنون والإرهاب الفالت من عقاله يضرب خبط عشواء هنا وهناك ويوفِّر المبررات والذرائع للداعشية الأخرى، داعشية السوق التي لا ترى في الكائن البشري سوى مُستهلِك لبضائعها ومنتجاتها، مستفيدةً من حماقة الداعشية الأولى لتبرير حروبها وجرائمها. ليس من باب الغلو والمغالاة القول بأن "الداعشييتين" لا تستمدا مبررات بقائهما إلا من بعضهما بعضاً. كلٌّ منهما ضرورة للأخرى، ولِيراجع واحدنا التاريخ، سوف يجد على مَرِّ المراحل والحروب "دواعش" تتغير أسماؤهم وألقابهم وأشكالهم بحسب مقتضيات كل زمن، لكن على الدوام كان التطرّف الديني والتوسع الاستعماري قطبي الصراعات المتتالية التي عاشتها البشرية ولا تزال.
ما علاقة كل ما أسلفناه بتطويب الأم تيريزا قديسة؟ الحاجة إلى أمثالها، لولا أولئك الإنسانيون الذين مدّوا أيديهم ليمسحوا جبين العالم ويضمدوا جراحه لَغدا الكوكب جحيماً لا يُطاق. مثالُ الأمّ تيريزا مثالٌ يُحتذى ويجب أن يُحتذى. ما نتوقعه من العاملين في المجال الديني، خصوصاً مَن نسميهم "رجال دين"، (علماً أن في الإسلام كل مسلم هو رجل دين حيث لا كهنوت ولا أكليروس، لكن السلطات السياسية عرفت كيف تُوجِد كهنوتاً إسلامياً) هو تلك اللمسة الإنسانية الضرورية، وإلا ما معنى الدين إن لم يكن في سبيل الإنسان، أليس الله عزَّ وجلَّ أرحم الراحمين ولا نبدأ كلامه المقدس بغير الرحمن الرحيم، ألم يُرسَل سيدنا محمد رحمة للعالمين. الرحمة جوهر الرسالة السماوية، والرحمة أكثر ما يحتاجه كوكب الأرض، "رجل الدين" (يا لها من تسمية، كأن المرأة لا تستطيع التفقه في أمور الدين والدنيا، علماً أن رسولنا الأكرم كان يستشير أمهات المؤمنين في أمور كثيرة) هو مَن يُبشِّر بالعفو والرحمة، لا مَن يُنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور، مَن يُصلح بين الناس ويقرِّبهم من بعضهم بعضاً لا مَن يباعد بينهم ويبثّ الضغائن والأحقاد، ولا مَن يُكفِّر كلَّ مُختَلِفٍ معه في الرأي والعقيدة، هو مَن ينحاز للفقراء والمظلومين ويدافع عنهم لا مَن ينصر المتسلطين والسرَّاق وناهبي حقوق الناس وخيرات الشعوب، هو مَن يعيش بين الناس، بسطاء الناس ويشاركهم خبزهم الكفافَ يومهم، لا مَن يسكن القصور والأبراج العالية ويتعالى على الآخرين، التقرُّب الأجمل من الخالق يكون عبر التقرُّب من مخلوقاته الأضعف لا الأقوى، المُستضعَف بابٌ من أبواب الله، "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (القصص٥).
الله نور، المؤمن مرآةٌ تعكس نور الله على الأرض والنَّاس. النور لا يميز بين الناس بل يفيض على الجميع، محظوظٌ مَن يسكب نور الله في قلبه، وقديسٌ كلُّ مَن يعكس نوره على الآخرين.
طوبى للأمّ تيريزا، طوبى للأمهات.