أناتول كاليتسكي
تَصِف أسطورة الملك كانوت كيف أوضح أحد الملوك الأنجلوساكسون الأوائل لرعاياه حدود السلطة الملكية. وضع كانوت عرشه بالقرب من البحر وأمر المد المتزايد الارتفاع بالعودة إلى الوراء. وعندما ارتفع البحر كالمعتاد وغمر كانوت، قال لرجال حاشيته: "الآن فليعلم كل الرجال كم هي فارغة قوة الملوك".
ويبدو أن رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، التي ترفع شعار "الخروج البريطاني يعني الخروج البريطاني"، تعتقد أن رسالة كانوت كانت حول الديمقراطية وليس عِلم الفلك: إذ كان من الواجب عليه أن يعقد استفتاء. على الرغم من معارضة ماي انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فإنها ترفع الآن شعارا جديدا: "سوف نحول الخروج البريطاني إلى نجاح لأن الشعب صَوَّت له".
بيد أن هذا محض هراء. فإذا أصبحت بريطانيا الدولة الأوروبية الوحيدة غير روسيا التي تستبعد نفسها من سوق الاتحاد الأوروبي الموحدة، فلن تنجح اقتصاديا، بصرف النظر عن الكيفية التي صَوَّت بها الناس. فما كانت الديمقراطية لتمنع موجات المد في المحيط، التي تدفعها الجاذبية، من إغراق كانوت إذا أصر على البقاء على عرشه، ولن يعيد الاستفتاء إلى الوراء موجات المد الاقتصادية التي تدفعها العولمة.
ومع انزلاق الاقتصاد البريطاني إلى الركود، وبعد أن يتبين أن وعود الحكومة بالخروج البريطاني الناجح السريع كانت غير واقعية، فسوف يتحول الرأي العام. وسوف تخضع أغلبية ماي البرلمانية الصغيرة للضغوط، وخاصة من قِبَل العديد من الأعداء الذين اكتسبت عداوتهم من خلال تطهير كل حلفاء رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون. وبالتالي فإن القرارات الرئيسية بشأن الخروج البريطاني لن تتخذ في لندن، بل في بروكسل وبرلين.
ويتعين على زعماء الاتحاد الأوروبي أن يقدموا خيارا واضحا: فإما أن تظل بريطانيا عضوا في الاتحاد الأوروبي بعد التفاوض على بعض الإصلاحات الإضافية لإرضاء الرأي العام؛ أو تنفصل تماما وتتعامل مع الاتحاد الأوروبي على نفس الأسس التي تتعامل بها معه "أي دولة في منظمة التجارة العالمية، من أفغانستان إلى زمبابوي".
ومن خلال استبعاد الخيارات المتوسطة الزائفة مثل النموذج "النرويجي" أو "السويسري" ــ والتي رفضتها ماي على أية حال، لأنها تعني حرية التنقل للناس ــ يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يجعل العواقب الاقتصادية المترتبة على الخروج البريطاني واضحة بلا أي لبس. فلن تظل لندن العاصمة المالية لأوروبا لأن القواعد التنظيمية سوف تتغير عمدا لتحويل الأنشطة التجارية إلى ولاية الاتحاد الأوروبي. ولنفس السبب، سوف تصبح العديد من الصناعات التصديرية التي تتخذ من المملكة المتحدة مقرا لها غير قابلة للحياة.
في مواجهة هذا الاحتمال، سوف تضطر الشركات على ضفتي القنال الإنجليزي إلى إدارة حملة علنية لحمل بريطانيا على الإبقاء على عضوية الاتحاد الأوروبي الكاملة، بدلا من الضغط بهدوء للحصول على صفقات خاصة لصالح قطاعاتها المختلفة. قد لا يبالي القوميون المتشددون، ولكن ربما يعيد عدد كاف من المتشككين الهامشيين في أوروبا النظر في مواقفهم لقلب الأغلبية بنسبة 52% في مقابل 48% لصالح الخروج البريطاني في الاتجاه الآخر.
وقد يصبح انقلاب الرأي العام شبه مؤكد إذا استجاب الزعماء الأوروبيون بصدق لرسالة الناخبين في المملكة المتحدة، ليس من خلال تسهيل الخروج البريطاني، بل بالاعتراف بالاستفتاء باعتباره نداء إيقاظ لإصلاح الاتحاد الأوروبي.
لنفترض أن زعماء الاتحاد الأوروبي وجهوا الدعوة للحكومة البريطانية إلى التفاوض على السياسات التي هيمنت على الاستفتاء والتي تغذي أيضا مشاعر الاستياء في دول أوروبية أخرى: فقدان السيطرة المحلية على الهجرة؛ وتحويل السلطة من البرلمانات الوطنية إلى بروكسل؛ وتآكل النماذج الاجتماعية التي تعتمد على الروابط القوية المتمثلة في المواطنة ودولة الرفاهة السخية. أو أنهم أيدوا اقتراح الدنمرك الذي يقضي بالسماح للحكومات الوطنية بالتفريق بين مدفوعات الرعاية الاجتماعية للمواطنين والمهاجرين الجدد، أو قرروا تمديد الخطة التي تمنح سويسرا "مكابح الطوارئ" ضد أي ارتفاع مفاجئ في مستويات الهجرة لكل أوروبا، أو أن الاتحاد الأوروبي أقر بأن مركزية السلطة تمادت أكثر مما ينبغي وتسببت رسميا في إنهاء الدافع إلى "الاتحاد المتزايد التقارب".
الواقع أن مثل هذه الإصلاحات تعتبر غير قابلة للتصور في بروكسل، لأنها تستلزم إدخال تغييرات على المعاهدات وربما يرفضها الناخبون. ولكن يكاد يكون من المؤكد أن الناخبين الذين عارضوا معاهدات الاتحاد الأوروبي السابقة بسبب تركيزها للسلطة سوف يرحبون بالإصلاحات التي تعيد السلطة إلى البرلمانات الوطنية. والعقبة الحقيقية التي تحول دون الإصلاح ليست صعوبة تغيير المعاهدات؛ بل المقاومة البيروقراطية لفكرة التخلي عن السلطة.
إذ تظل المفوضية الأوروبية مهووسة بالدفاع عن المكتسبات المجتمعية، أو تجميع السلطات "المكتسبة" من قِبَل الاتحاد، والتي تُملي عقيدة الاتحاد الأوروبي عدم إعادتها أبدا للدول القومية. بل إن رئيس المفوضية جان كلود يونكر ومستشاره الأول مارتن سيلماير رحبا بالخروج البريطاني باعتباره "فرصة لتعزيز المكتسبات" من خلال المزيد من تركيز السلطة.
ينبغي ليونكر، وماي، أن يتذكرا الملك كانوت. فالآن يرتفع مد الديمقراطية الوطنية في مختلف أنحاء أوروبا، ولن تتمكن الشعارات حول "الاتحاد المتزايد التقارب" من عكس اتجاه هذا المد. ويتعين على الزعماء الأوروبيين أن يعترفوا بالواقع ــ أو يشاهدوا أوروبا وهي تغرق.
أناتول كاليتسكي هو كبير الاقتصاديين والرئيس المشارك ل كافينيل دراكونوميكس ومؤلف "الرأسمالية 4.0، ولادة اقتصاد جديد".