عودة الاتحاد السوفياتي

مقالات رأي و تحليلات السبت ٢٠/أغسطس/٢٠١٦ ٢٣:٢٦ م
عودة  الاتحاد السوفياتي

ماشا جيسين

يوم الثاني والعشرين من أغسطس هو يوم عطلة رسمية في روسيا: فهو يوم العلم. ولكنه يأتي في مرتبة متدنية في التسلسل الهرمي للعطلات الرسمية. فلن يكون هناك مواكب ولا استعراضات، كما هو الحال في يوم النصر. ولن يحصل الروس على يوم راحة، كما يحدث في عيد العمال أو العيد الوطني لروسيا أو يوم المرأة العالمي أو يوم المدافعين عن أرض الآباء وغيرها من العطلات الرسمية. ومن غير المحتمل أن يلاحظ الزائر لروسيا أنها تحتفل في هذا الشهر بالذكرى الخامسة والعشرين لحدث تاريخي فارق.
فماذا حدث قبل ربع قرن؟ في الثامن عشر من أغسطس عام 1991، توجه أربعة من كبار المسؤولين السوفيات إلى شبه جزيرة القرم، حيث كان رئيس الاتحاد السوفياتي ميخائيل جورباتشوف يقضي إجازة هناك، وقاموا بوضعه تحت الإقامة الجبرية. وفي اليوم التالي، استيقظ المواطنون السوفيات على خبر أن هناك لجنة مكونة من قادة كل من أمن الدولة وقادة عسكريين وقادة الحزب الشيوعي السوفياتي قد أعلنت حالة الطوارئ. بعد ذلك، وعلى مدى ثلاثة أيام، انهار الانقلاب.
وفي الحادي والعشرين من أغسطس أصبح فشل الانقلاب واضحا تماما، وقامت السلطات في موسكو بإزالة تمثال عملاق لمؤسس الشرطة السرية، فيليكس دزيرجينسكي، من قاعدته في وسط المدينة. وتم رفع علم روسيا – بالألوان الأبيض والأزرق وخطوط حمراء – على مبنى مجلس السوفيات الأعلى الروسي، وهو الهيئة التشريعية الاسمية، في موسكو. وقد مات ثلاثة أشخاص فقط في شوارع موسكو قبل أن تنتهي محاولة الانقلاب.
قبل ذلك بعامين، كانت احتجاجات شعبية يقودها ناشطون شباب مؤيدون للديمقراطية قد أسقطت الحكومات الشيوعية في عدة بلدان في أوروبا الشرقية. وقد عرفت هذه باسم ثورات عام 1989. وكانت معظمها ثورات سلمية؛ حيث أطلق التشيك على ثورتهم اسم الثورة "المخملية". واستسلمت الأحزاب الحاكمة ببساطة. وفي العديد من الكتب التي نشرت في الغرب، وفي أذهان بعض المثقفين الروس، كانت الأيام الثلاثة من أغسطس عام 1991 هي النسخة الروسية من الثورة المخملية، ويتم إحياء ذكراها باعتبارها نهاية الاتحاد السوفياتي.
ولكنها لم تكن نهاية الاتحاد السوفياتي ولا كانت ثورة مخملية. فبعد ذلك بخمسة وعشرين عاما، أصبح هذا الأمر ربما أكثر وضوحا من أي وقت مضى.
بحلول صيف عام 1991، كانت الإمبراطورية السوفياتية في النزع الأخير على مدى عامين. فقد كان في كل جمهورية من الجمهوريات الخمسة عشر المكونة لها، بما فيها روسيا، حركات شعبية مؤيدة للاستقلال. وكانت الصراعات العرقية والنزاعات الحدودية تشتعل في كل أرجائها؛ وانتشرت إراقة الدماء. وكان الرئيس جورباتشوف متذبذبا بين الحلول العسكرية والسلمية لتلك الأزمات المتزايدة. وقد استخدمت الدولة السوفياتية القوة في أذربيجان وجورجيا وليتوانيا، فقتلت عشرات الأشخاص وخيبت آمال الذين كانوا يريدون التغيير. بيد أن المتشددين، الذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من القيادة السوفياتية، رأوا أن جورباتشوف لينا أكثر مما ينبغي. ومثل أي قائد يحاول استرضاء الجميع، كان الرئيس جورباتشوف مكرها من كثيرين. ولكن نضاله الأشد كان مع بوريس يلتسين، رئيس الحزب السابق الذي أصبح في يونيو عام 1991 الزعيم الشعبي المنتخب للجمهورية الروسية داخل الاتحاد السوفياتي.
وقد أتاح فشل انقلاب المتشددين فرصة أمام يلتسين. فبينما كان جورباتشوف رهينة في شبه جزيرة القرم، كان يلتسين في موسكو، فتحدث إلى المتظاهرين المناهضين للانقلاب في المدينة – من فوق دبابة، لا أقل. وبعد أن انتهى الانقلاب، كان ينظر إليه على نطاق واسع على أنه قائد المقاومة المنتصرة، وأصبح الآن في وضع يمكنه من الإملاء على جورباتشوف ما يفعله.
وعندما عاد جورباتشوف إلى موسكو في الثاني والعشرين من أغسطس وبدأ تطهير الصفوف من الكثير من مؤيدي الانقلاب، ألغى يلتسين العديد من التعيينات التي قام بها جورباتشوف، وقام بتعيين رجاله هو. كما أنه أكد أيضا على أن الحزب الشيوعي السوفياتي، الذي دبر قادته الانقلاب، قد تم إغلاقه فعليا، في حين واصل الحزب الشيوعي الروسي العمل. بعبارة أخرى، تحرك يلتسين للسيطرة على كل المؤسسات السوفياتية الرئيسية، من لجنة أمن الدولة إلى مركز قيادة الاقتصاد.
وخلال خريف عام 1991، أعلنت الجمهوريات المكونة للاتحاد السوفياتي استقلالها عنه، واحدة تلو الأخرى، في حين كافح جورباتشوف، الذي كان مازال هو الرئيس السوفياتي، للحفاظ على وحدة الاتحاد. وفي ديسمبر، التقى يلتسين مع قادة كل من بيلاروسيا وأوكرانيا واتفقوا على تفكيك الاتحاد السوفياتي، ولم يتم دعوة جورباتشوف. بل إنه لم يكن أول من يعلم بالاجتماع: فقد أخبره بالخبر رئيس بيلاروسيا بعد أن دعا يلتسين الرئيس جورج بوش. وفي النهاية، كان على جورباتشوف أن يستقيل من منصبه كرئيس لأن بلده لم تعد قائمة. فمعظم مؤسساتها، جنبا إلى جنب مع عضوياتها في المنظمات الدولية، تم تمريرها إلى دولة جديدة اسمها الاتحاد الروسي.
بيد أن يلتسين ومساعديه كانوا يعتقدون أن ما حدث في روسيا كان أفضل من أي ثورة، حتى ولو كانت ثورة مخملية. فقد كانوا على قناعة أنه بالاستيلاء على المؤسسات القائمة سيجلبون الديمقراطية إلى روسيا بشكل أسرع، وأقل ألما، مما لو قاموا بتدميرها. ولكنهم لم يفكروا كثيرا في حقيقة أن تلك المؤسسات كانت مؤسسات لنظام شمولي منذ زمن طويل: لم يشكوا في أن لديهم الإرادة والقوة اللازمة لتحويل تلك المؤسسات إلى الديمقراطية.
ولكن اتضح أن تلك المؤسسات كانت أقوى من الرجال الذين أرادوا إصلاحها، فقد قاومت التغيير على مدى قرابة عقد من الزمن، وعندما أصبح فلاديمير بوتين رئيسا، وقعت تلك المؤسسات في مكانها الصحيح، مما سهّل من انحسار وتراجع روسيا. واليوم أصبحت الحياة في روسيا – حيث كل شيء سياسي، وحيث يتم تعبئة السكان حول الزعيم والأمة، وحيث تم استعادة الرقابة وحكم الحزب الواحد على نحو فعال – أصبحت أكثر شبها بالحياة في الاتحاد السوفياتي من أي وقت آخر في السنوات الخمسة والعشرين الفائتة.
لقد أصبح النصب التذكاري للرجال الثلاثة الذين لقوا حتفهم خلال الانقلاب الفاشل في أغسطس عام 1991 – وهو عبارة عن لوحة لا يعلم سوى عدد قليل من الناس أنه موجود – أصبح في حالة سيئة، كما أن النقاش حول إنشاء نصب آخر ملائم وظاهر يحل محله قد تلاشى أيضا منذ سنوات. ولكن تمثال دزيرجينسكي، والذي هو معروض في حديقة ليست بعيدة عن الكريملين، تم ترميمه بكل حب هذا الصيف، للمرة الرابعة على الأقل في السنوات القليلة الفائتة. كما أن هناك حديث عن إعادته إلى مكانه القديم.

ماشا جيسين هو مؤلف كتاب "الأشقاء: الطريق إلى مأساة أمريكية"، الذي صدر حديثا.