زاهي وهبي
تُضاف "نظرة" يوسف زيدان الى وسط الجزيرة العربية (نجد) واعتباره أنها لم تُقدِّم عبر التاريخ شيئاً يُذكَر للغة العربية، الى الألف حكاية وحكاية من حكايات الخراب العربي المتواصل. كاتبٌ كبيرٌ ومثقف موسوعيٌّ بمكانته المرموقة وجوائزه الأدبية الكثيرة لا يكفّ عن إطلاق المواقف المثيرة مسيئاً بقصد أو بدونه الى شرائح واسعة من قرائه العرب عِوَض انكبابه على كتابة الروايات والأبحاث. لو كانت تلك المواقف تستند الى براهين علمية وحقائق ثابتة لَقلنا: ما عليه، لا ينبغي له أن يخشى في الحق لومة لائم. لكن أن يلجأ مثقف كبير وأكاديمي ذو باع، بجرَّة قلم أو زَلَّة لسان، الى شطب الإرث اللغوي لمنطقة شهدت ولادة أجمل الشِّعر العربي وأعذبه من دون أن يرفَّ له هدب أو يرتعش له قلم، فهذا أمر غير جائز أو مقبول.
ليست حجة زيدان ضعيفة، بل غير قائمة، حين ينفي بسهولة واستسهال إسهام أبناء وسط الجزيرة العربية في اللغة العربية إنما يلغي (أقَلَّهُ) بكلام هوائي إرثاً عظيماً من الشعر العربي الذي حفظته أجيال متعاقبة من الناس، وكان خير مُعبِّر عن بيئته وعن أحوال أهلها وناسها وقصص حبهم وحربهم وفخرهم ورثائهم وهجائهم. فضلاً عن كون المفاضلة الجغرافية بين العرب لا تُقدِّم إسهاماً يُعتد به في ما نطمح اليه ونتوقعه ونرجوه من العقول العربية النيرة.
أصلاً، متى سألت العرب عن جنسيات الفقهاء والمفسِّرين والفلاسفة والعلماء الذين أنتجوا ما أنتجوه من إرث معرفي عظيم لا زالت الإنسانية تنهل منه الى يومنا الراهن؟ هل سألت عن الإنتماء الجغرافي لِسيبويه والبخاري والرازي وابن سينا؟ كلُّ مَن كتبَ بالعربية وأضاف اليها بات عربياً، إذا كان غير العربي مقبولاً كشريك في النتاج الابداعي العربي. فما بالنا بالعربي نفسه سواء كان من الوسط أو من الجهات الأربع؟ هذه الحال كانت يوم كانت العرب أمة مزدهرة واثقة من نفسها، لا كحالها اليوم أمة مهزومة مفجوعة فاقدة لِمقومات النهوض. الأمم الواثقة لا تخشى ولا تهاب مَن يأتيها ويدخل اليها، بل تستوعبه وتهضمه وتجعله جزءاً منها، لِننظر الى أميركا، وهي الدولة العظمى راهناً، هل تسأل علماءها ومبدعيها عن مسقط رأسهم الجغرافي، لو فعلت لما ظل أحد أميركي بهذا المعنى، وفي المقدمة رئيسها الحالي باراك أوباما ذو الجذور الكينية المسلمة.
مقولة زيدان الهرطوقية استدعت ردوداً واسعة من مثقفين وكتّاب خليجيين، بعضها اتسم بالمنطق وتسلَّح بالحجة الدامغة (سعيد السريحي، عيد اليحيى مثلاً) وبعضها شابته انفعالية غاضبة تقابل الخطأ بخطأ مماثل وصلت حدَّ المطالبة بعدم دعوته الى المهرجانات والمنتديات الثقافية، ومنعه من زيارة دول الخليج العربي. فالخطأ الذي يُرَدُّ عليه بخطأ لا ينتج صواباً بطبيعة الحال، و"المكارثية" التي يمارسها بعض "المثقفين" تجاه كل مَن يختلف معهم في الرأي تُعتَبر حجةً عليه وليست له. كاتب وباحث مثل زيدان، حتى لو أخطأ، يستحق ردوداً معرفية وسجالاً حضارياً، لا لأجله، بل لأجلنا جميعاً، نحن أمة العرب، فينا ما يكفينا من جراح وندوب وكدمات وتصدعات، لا ينقصنا أن يغرق المبدعون في وحول الانقسامات على أنواعها.
رُبَّ قائل: البادىء أظلم، وهذا صحيح، لكن رفع الظلم يكون بتباين الحقيقة لا بالإقصاء والإلغاء والقتل المعنوي، والأجدر بأبناء وسط الجزيرة أن يرفعوا الغطاء عن موروثهم الأدبي والثقافي الذي طُمِسَ معظمه تحت مُسمَّى "الجاهلية". طَمْسٌ ساهم في تكوين تلك النظرة المغلوطة الى تاريخهم وموروثهم الثقافي، لا يجوز انسانياً وعلمياً ومعرفياً وحضارياً محو كل ما سبق ظهور الاسلام باعتباره "أنصاباً" و"شُرْكَاً"، ثمة ما هو جدير بأن نعيد اكتشافه وقراءته من جديد.
لن تقوم قائمة للعرب من محيطهم الى خليجهم ما دامت العصبيات تنخر جسد الأمة وتفتته وتبعثره مثل دقيق يوم ريح. نتقاتل كل حين على كل شيء. فإلى الإنقسام السياسي المدمر، مباراة كرة قدم بين منتخبين عربيين يجعلها أبناء بلديهما حرب داحس والغبراء على مواقع التواصل، برنامج مسابقات للهواة والمراهقين يحوِّل الصفحات الإفتراضية جبهات قتال بين مواطني المتبارين، رأي لفنان بزميل له يسفر عن حملات شعواء بين مغردي بلديِّ الفنانيْن المعنيين، وقِسْ على هذا المنوال، عِوَضَ أن يعمد الكتّاب والمثقفون المفترَض أنهم أكثر عِلماً ومعرفة الى المساهمة في رفع مستوى الوعي وردم الفجوات نرى الكثيرين منهم ينخرطون للأسف في حملات التحريض والتخوين وبثِّ سموم الفتن وبذور الشقاق، ما ينفي عنهم بطبيعة الحال صفة الوعي والمعرفة ويضعهم في خانة الجهلة أو المُجهِّلين.
لا يجوز بأي حال من الأحوال الحكم على شعب من خلال سياسة نظامه أو حكوماته، ولا يُقاس النتاج المعرفي الابداعي بميزان الصراعات المزمنة بين الأنظمة والدول، ولا بطبيعة الحال انطلاقاً من الانتماء الجغرافي للمبدعين خصوصاً متى انتموا الى أمة واحدة وتكلموا وكتبوا لغة واحدة كما هو حال المبدعين العرب. إن أمة يحفل موروثها المعرفي بإسهامات مبدعين من أصقاع الأرض ورياحها المختلفة، لن تجد صعوبة، لو توفر العزم والإرادة، في قبول مبدعيها العرب على اختلاف أقطارهم وأقاليمهم، مع الحفاظ الحريص على خصوصية كل مجتمع عربي من المحيط الى الخليج، لكن المثل يقول "القِلَّة تُوَّلِد النِّقار"، وما مِن "قِلَّةٍ" تماثل هذه التي شاء حظنا أن نحياها ونكون شهوداً عليها.
السجال علامة صحية، فالأمم الحية يكثُر فيها الجدل والنقاش، لكن شريطة أن يحافظ المتساجلون على حد أدنى من الوعي والاحترام المتبادلين، وعدم الانجرار الى شوفينيات قطرية وجهوية. لا نرى أية فائدة علمية ومعرفية من المفاضلة بين مشرق ومغرب أو بين مصر والخليج، كلنا في الهمِّ عرب.
المفترض والمرجو من كتَّاب في مكانة يوسف زيدان وبعض مَن ردُّوا عليه الإرتقاء الى مرتبة نقاش لا يَطمُس أو يُقصي بجرَّة قلم. الثقافة العربية نهر عظيم تغذِّيه روافد شتى، كلما كثُرت الروافد كلما عَظُمَ شأن النهر، ولا يضير النهر في شيء أن يلقي أحدهم حصاة فيه.
نعم، السجال دليل حياة وعلامة صحية، إلّا أنه حين يخرج عن أصوله العلمية والأدبية يغدو مجرد حركةِ تَنَفُّسٍ تشبه حالَ مريضٍ مات سريرياً وظلَّ قادراً على التنفُّس بواسطة الأجهزة الصناعية. نتمنى لو كانت حال أمتنا مختلفة عن حال ذاك المريض. لكنه، بكل أسى ولوعة، واقع الحال المفجع المؤلم الذي يجعل حبرنا مشوباً بالدمع، فيما يضحك أفيخاي أدرعي (الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي) وهو "يتمنى" لنا كل أسبوع جمعة مباركة، ويحرِّضنا على أنفسنا ساخراً منا كمن يقول في سِرِّه: عليهم يا عرب(!).