داني رودريك
أصبح مصطلح "الحكم العالمي" شعار النخبة في عصرنا. فبفضل الطفرة الهائلة في التدفقات عبر الحدود من السلع والخدمات ورؤوس الأموال والمعلومات التي ينتجها الإبداع التكنولوجي وتحرير السوق، أصبحت بلدان العالم وفقا للحجج التي تسوقها النخبة مترابطة إلى الحد الذي يجعل أي دولة عاجزة عن حل مشاكلها الاقتصادية بمفردها. وعلى هذا فنحن في احتياج إلى قواعد عالمية، واتفاقيات عالمية، ومؤسسات عالمية.
وقد بات هذا الادعاء مقبولا على نطاق واسع اليوم حتى أن الطعن فيه ربما يبدو أشبه بالزعم بأن الشمس تدور حول الأرض. بيد أن ما قد يكون صحيحا عندما نتحدث عن مشاكل عالمية مثل تغير المناخ أو الأوبئة الصحية لا يصدق عندما يتعلق الأمر بأغلب القضايا الاقتصادية. وخلافا لما نسمع غالبا، لا يشكل الاقتصاد العالمي مشاعا عالميا. والحكم العالمي قادر على جلب قدر محدود فقط من المنفعة ــ وإحداث بعض الأضرار من حين إلى آخر.
وما يجعل من تغير المناخ على سبيل المثال مشكلة تتطلب التعاون العالمي هو أن النظام المناخي على كوكب الأرض واحد. وليس من المهم أين تنبعث الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي. ولهذا فإن القيود الوطنية التي قد تُفرَض على الانبعاثات الكربونية لا تحقق أي فائدة تُذكَر على المستوى المحلي.
على النقيض من ذلك، تعود السياسات الاقتصادية الجيدة ــ بما في ذلك الانفتاح ــ بالفوائد على الاقتصاد المحلي أولا، وبالمثل، يُدفَع ثمن السياسات الاقتصادية السيئة محليا. وتتحدد الثروات الاقتصادية التي تمتلكها البلدان فرادى على ضوء ما يحدث في الداخل إلى حد كبير وليس ما يحدث في الخارج. فإذا كان الانفتاح الاقتصادي مرغوبا، فإن هذا يرجع إلى حقيقة مفادها أن مثل هذه السياسات تصب في المصلحة الذاتية للدولة التي تنتهجها ــ وليس لأنها تساعد الآخرين. وتعتمد سياسات الانفتاح وغيرها من السياسات الجيدة التي تساهم في الاستقرار الاقتصادي في مختلف أنحاء العالم على المصلحة الذاتية، وليس على الروح العالمية.
ولكن الغالبية العظمى من القضايا في التجارة العالمية والتمويل التي تشغل صناع السياسات ليست من هذا القبيل. ولنتأمل هنا على سبيل المثال إعانات الدعم الزراعية في أوروبا والحظر المفروض على الكائنات المعدلة وراثيا، أو إساءة استخدام قواعد مكافحة الإغراق في الولايات المتحدة، أو الحماية غير الكافية لحقوق المستثمرين في الدول النامية. وهذه في الأساس سياسات "إفقار الذات". وتتحمل تكاليفها الاقتصادية في المقام الأول الدول التي تفرضها، حتى برغم أنها ربما تتسبب في إحداث آثار سلبية يتحملها آخرون أيضا.
ولعل خيبة الأمل الأكبر في ما يتصل بالسياسات في عصرنا كانت متمثلة في فشل الحكومات في الديمقراطيات المتقدمة في معالجة اتساع فجوات التفاوت. وهذا أيضا تمتد جذوره إلى سياسات محلية ــ حيث تستولي النخب المالية والتجارية على عملية صنع السياسات وتروج لروايات حول الحدود التي تقيد سياسات إعادة التوزيع.
من المؤكد أن الملاذات الضريبية العالمية تُعَد مثالا لسياسات إفقار الجار. ولكن الدول القوية مثل الولايات المتحدة والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي كان بوسعها أن تفعل الكثير للحد من التهرب الضريبي ــ والسباق إلى القاع في خفض الضرائب على الشركات ــ إذا رغبت في ذلك.
وعلى هذا فإن المشاكل في عصرنا لا علاقة لها بالافتقار إلى التعاون العالمي. فهي ذات طبيعة محلية ومن غير الممكن إصلاحها بفرض القواعد من خلال المؤسسات الدولية، التي قد ترتبك بسهولة بفِعل نفس المصالح الخاصة التي تقوض السياسات المحلية. الواقع أن مصطلح الحكم العالمي قد يكون في كثير من الأحيان مجرد مسمى آخر لملاحقة أجندة عالمية يفرضها أصحاب المصالح، وهو لهذا السبب ينتهي في الأساس إلى تعزيز العولمة والتوفيق بين السياسات الاقتصادية المحلية.
ينبغي لأي أجندة بديلة للحكم العالمي أن تركز على تحسين كيفية عمل الديمقراطيات في الداخل، من دون إصدار أحكام مسبقة على الكيفية التي لابد أن تكون عليها مخرجات السياسات. وهذا من شأنه أن يعزز الديمقراطية بدلا من نموذج الحكم العالمي المعزز للعولمة.
يحضرني الآن تصور يتلخص في إنشاء معايير عالمية ومتطلبات إجرائية مصممة لتعزيز جودة عملية صنع السياسات المحلية. وتُعَد القواعد التنظيمية العالمية المتعلقة بالشفافية، والتمثيل الواسع، والمساءلة، واستخدام الأدلة العلمية أو الاقتصادية في الإجراءات والتصرفات المحلية ــ من دون تقييد النتيجة النهائية ــ أمثلة لهذه المتطلبات.
الواقع أن المشاكل التي تمتد جذورها إلى إخفاقات المداولات المحلية لن يتسنى حلها إلا من خلال تحسين عملية اتخاذ القرار الديمقراطي. ولن يقدم الحكم العالمي سوى مساهمة محدودة للغاية في هذا السياق ــ وحتى هذه المساهمة المحدودة تستلزم تركيزه على تعزيز عملية اتخاذ القرار على المستوى المحلي وليس تقييدها. وخلافا لذلك فإن هدف الحكم العالمي يجسد التوق إلى التوصل إلى حلول تكنوقراطية تتجاوز المداولات المحلية وتقوضها.
داني رودريك أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "الاقتصاد يحكم: حقائق وأباطيل العلم الكئيب".