احمد المرشد
شاءت الأقدار أن أذهب الي لبنان في رحلة علاجية رغم تحذيرات الأصدقاء لي من التوجه لبيروت في مثل هذه الآونة، فالأزمة السياسية مستحكمة، واضطرابات اقتصادية علي خلفية غياب الرئيس وعدم قدرة الأطياف اللبنانية علي حسم مشاكلهم وتسمية رئيس للجمهورية، ولكن مع كل ذلك امتثلت لعقلي وقلبي معا، وحققت رغبتي في العلاج بهذه الدولة الرائعة، فلا يهمني أزمات سياسية أو اقتصادية، فهدفي العلاج من علتي والشفاء بقدرة الله عز وجل، ومن هنا كانت بيروت مشيئتي ووجهتي.
تظل بيروت هي بيروت ، بشوارعها، وأسواقها ، بجمالها بثقافة أهلها ، نحبها و نشتاق إليها ، فمتي يتحلي أهلها – أو كل أهل لبنان - بالحكمة، وتعود بيروت كما كنّا نراها منارة ثقافية عربية نزورها بدون خوف ، بدون فبركات إعلامية تزرع في قلوبنا الخوف من زيارتها.
ولعلي اعترف بأن الأسعار تضاعفت في كل مكان ، ولابد لك من الفصال مع البائعين في المحلات التجارية ، وحتي المقاهي وأصحاب سيارات الأجرة ، وايضاً حتي الكشف الطبي، فما تدفعه في مستشفي يختلف عما يطلبه مستشفي آخر.. هذه هي لبنان ، ورغم ذلك تظل ذلك البلد الجميل الذي يراود أذهاننا وأحلامنا ، لما يمثله من رمز لنا، فشارع الحمراء يعج بمرتاديه، وهكذا السوليدير والمركز التجاري والساحات ومنطقة الجميزه وفوق الجبل.
بيد أن هذا لم يمنعنا من الاعتراف بحقيقة مهمة ، وهي وجود شرطة السياحة بمطار بيروت لعدم استغلال السياح، بما يؤكد ببساطة شديدة أن أمور الدولة رغم غياب الرئيس تسير بلا مشكلات، وما حديثي عن "الفصال" سوي عادة توجد في دول عديدة وليست حكرا علي لبنان.
لبنان هذه البلد المضيافة لجيرانها، تستضيف نحو 3 ملايين سوي، بما يعادل نصف سكانها البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة، ليصل عدد السكان حاليا نحو 10 ملايين نسمة تقريبا، ومع ذلك لا تري في بيروت ما تشاهده في بعض العواصم الأخري من ازدحام مروري خانق، يصيب المرء بعصبية وضيق واحباط، وربما يدفعه الي عدم زيارة مثل هذه الأماكن مجددا.
لبنان يشتهر تاريخيا بشجر الأرز، فلا يكاد يذكر إلا ذكر معه الأرز، فمنذ القدم، فالأرز ولبنان توأمان، وقد تفرد في القدم بهذا النوع من الشجر البديع في تكوينه ، ولا تزال غابة أشجار الأرز الألفية تشكل إحدى أبرز المناطق السياحية اللبنانية، ناهيك عن غابة الأرز التي تضم 450 أرزة، يعود معظمها الى 4500 سنة. وتقول المعلومات أن المتصرف رستم باشا شيّد عام 1877 سورا ضخما لحمايتها، ومن إعجابه بها ، زارها الشاعر الفرنسي لامارتين عام 1832 ، ونظم فيها شعرا، فخلدت الزيارة في عام 1923 على لوحة رخامية نصبت على إحدى الأرزات..والأرز يرتبط تاريخيا بلبنان، فأشجاره أغلي من الذهب بالنسبة للبنانيين ، حيث بدأوا استثمار أخشابها منذ الألف الثالث ق.م. وكان القدماء يرغبون في الأرز بسبب عبيره ومتانته وطول جذوعه، و استعمال زيته في طقوس التحنيط وصمغه كمادة عازلة.
ولا عجب في أن تجد كل اللبنانيين يفتخرون بشجر الأرز الذي يزين علمهم ، وجعل ارتباطهم به أن يشاهدوه في كل الأوقات كلما رأوا العلم يرفرف في أي مكان، فيتذكرون أعالي بلادهم المشهورة علي مر التاريخ بأنها تكتسي بغابات كثيفة من الأرز فتزيد في روعته وجلاله.
وكان اللبنانيون يصدرون خشب أشجار الأرز الي مصر من مدن الساحل الكنعاني ، و دفع به الفينيقيون عبر العصور المتعاقبة إلى الغزاة الأشوريين والبابليين والفرس، ليصنعوا منه سفنهم، ويتردد أن النبي سليمان طلب من حيرام الصوري تزويده بكميات منه لبناء قصره. فيما افتخر الملك الأشوري "سنحاريب" (715-681 ق.م.) بأنه توغل في أعالي جبال لبنان وقطع بيديه أجمل أرزاته وسرواته ، وهو نفس صنيع الملك البابلي "نابوخد نصر" (605-562 ق.م.) .
وبمناسبة زيارتي لبيروت، التي حاولت بقدر الإمكان أن احولها من مجرد رحلة علاجية الي استمتاع بجو لبنان الرائع، فالجو ساحر ، فالميزة هنا الاحترام المتبادل بين الفصول الأربعة ، فلا يتخطي فصل الأخر، فالشتاء يلتزم بوقته و لا يجور علي الربيع، وكذلك الربيع يدخل بميعاد ويغادره في يوم محدد ليتسلم الصيف منه الأجواء، حتي يصل الي شهري يوليو وأغسطس في أوج درجات الحرارة ارتفاعا ورطوبة خصوصا العاصمة بيروت وكل المناطق المطلة علي البحر، ومن لبنان خرج المثل القائل "آب اللهاب" في إشارة الي شهر أغسطس الحار جدا، أما خريفه فلا يعادله فيه بلد آخر، فنسمة الهواء الباردة تدفع ساكني هذا البلد الجميل لارتداء ملابس لا هي صيفية ولا شتوية، فتري اللبنانيون وقد تأقلموا مع أجوائهم بسلاسة شديدة.
أنه لبنان بكل بلداته وريفه ، الذي قال فيه رجل الأعمال السعودي عبد العزيز العفالق علي هامش تكريمه في مؤتمر "مؤسسة الفكر العربي في بيروت" ومن لم يزرها وهو رب استطاعةتحتم في سجن الحماقة حبسه"..حقا، فمن لم يزر لبنان أو بيروت وهو يستطيع ، فعقابه هو الحبس في سجن الحماقة.. ولم لا، فلبنان ومدنه التي تشتهر بجبالها البيضاء، تعكس الأقلام عن وصف مفاتنه ، فسحره تشعر به بمجرد أن تطأ قدماك هذه الأرض الطيبة، فتتنوع وتتعدد فيه مظاهر الحسن والروعة والجلال . وكما أسبفت ، فصوله تتعاقب بدقة شديدة وبانتظام تام ليصل الي حد الساعة ، فالشتاء ينقضي في موعده ليستلم منه الربيع، وبدوره يمر مرور الكرام ليسلم لبنان الي فصل الصيف ليمر حارا رطبا حتي يأتي الخريف يسير في غروره المعهود علي أرض لبنان.
أنه لبنان، كل لبنان بدون استثناء، بمدنه وريفه وحضره ، بشماله وجنوبه، الذي يقول فيه الأديب ميخائيل نعيمه في وصف ممتع من ابن بار لهذا البلد :" إنها لمتعة لا تملّها العين، ولا ترتوي منها الأذن، ولا يشبع منها الخيال أن ترقب قوافل الفصول تدرج من شاطىء البحر في لبنان الى القمم، ومن القمم الى شاطىء البحر، وقد قطرت أوائل هذه بأواخر تلك، فراحت كلّ قافلة تنثر في طريقها ممّا احتوته أعدالها : فهذه تنثر أزهاراً وأنواراً، وأغاريد أطيار، وهدير شلالات، ووشوشات نسمات. وتلك بقولاً وحبوباً وثماراً، ونهارات محمومة بالعمل، مغسولة بالعرق، وليالي تتغامز كواكبها في غمرة من الأنس والسلام. وهاتيك تنثر بروقاً ورعوداً وعواصف وفلذات تصعد من البحر مع الريح فتنثرها الريح على الجبال واذا بها وشاح فائق البياض والسناء".
ومن عشق نعيمه لبلاده، يقتبس ما قاله الأنبياء والرسل في بلاده :"داود الملك يشبه الصديق بأرز لبنان، وعندما يتنبّأ لشعبه عن الخير الذي سيغدقه عليه اللّه يقول ان " غلته في رؤوس الجبال تتموّج كلبنان". ويدعو سليمان الحكيم حبيبته شولميت من لبنان : " هلمي معي من لبنان أيتها العروس " وشولميت تقول في حبيبها : " ساقاه عمودا رخام موضوعان على قاعدتين من ابريز، وطلعته كلبنان، هو مختار كالأرز " .
لقد أمضيت في لبنان أياما جميلة وممتعة نسيت معها أوجاعي وأسقامي، ولم أبالي كثيرا بالعملية الجراحية فالمولي هو الشافي المعافي ، فعشت السعادة ، ورغم أنني لم أبالغ في كل ما ذكرته وحتي أكون محايدا، فلبنان لم يصل بعد الي الحلم الوردي الذي نريده ، ومع بنايات بيروت الشاهقة الجميلة وشوارعها التجارية ، فلا زالت هناك شوارع غير ممهدة للسير ، ناهيك عن بنايات وعمارات تئن من آثار الحروب والدمار وكابلات الكهرباء منسدلة من فوق الأعمدة.. ومع كل ذلك ، أدين لبيروت تحديدا بالأجواء السحرية التي قضيتها فيها أثناء رحلة العلاج التي تحولت بقدرة الله الي جولة من الاستمتاع بكل المتناقضات.. وكما بدأت اختم، فلبنان الذي رأيته بلا رئيس أفضل من دولة برئيس.
كاتب ومحلل سياسي بحريني