تبرز الظروف الاقتصادية اليوم، حاجة المواطن إلى الوعي بمفهوم الاستهلاك الرشيد، وتأكيد ثقافته في سلوكه اليومي، وأصبح إدراك المواطن لها جزء من وعيه الحقوقي وقدرته على التعامل مع مستلزمات الحياة اليومية وفق مبدأ الأولويات والأهمية ومستوى الحاجة إليها، ومن خلال منظومة قيمية أخلاقية بات يُنظر إليها على أنها أحد معايير القواعد الاستهلاكية القادرة على تعزيز مفاهيم الايجابية في سلوك الفرد، لتصبح ثقافة الاستهلاك في منظور القيم والأخلاقيات ممارسات متوازنة ونُهج مؤطرة وأسلوب حياة يعزز في ذات الفرد فرص النمو الاقتصادي والوعي الاستهلاكي، إنها بذلك دليل وعي الفرد، وتعبير عن السلوك الحضاري للمجتمع الذي ينظر لمتطلبات معيشته اليومية في إطار التوازن ويتفاعل معها في ظل الاحتياج، بكل عفوية وسلاسة، بعيد عن التكلف أو إثقال كاهله بشراء غير مبرر لمواد استهلاكية سواء كانت غذائية أو تكميلية أخرى، فإن الممارسات الحاصلة من البعض في التعامل مع الموضوع الاستهلاكي، تستدعي إيجاد أطر وطنية عبر قيام المؤسسات بدورها التثقيفي والتوعوي، الذي يضمن للفرد فرص أكبر في توجيه أمواله لتغطية متطلبات أخرى في الحياة وتنفيذ مشاريع تخدمه وأسرته على المدى البعيد، فالسلوك الاستهلاكي السليم أصبح مرتبط بالصحة النفسية والثقافة الاجتماعية الواعية، لذلك كانت الحاجة إلى ضبط هذه الممارسات ، وتوجيهها بما يتكيف مع ظروف الفرد ويتفاعل مع مقتضيات الحياة اليومية، ويحقق له فرص السكون النفسي والفكري بتوفير متطلبات حياته. لقد رسمت آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والصلاة خريطة اقتصادية متكاملة في حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، تقوم منهجيات عملها على أساس ترسيخ ثقافة الاعتدال وسلوك التوازن في الانفاق والممارسات الاستهلاكية وغيرها، فالاعتدال طريق وصول المال إلى الغايات التي وجهت الشريعة إليها، والسبيل إلى الشعور بالرضا النفسي والتمكين الذاتي في التعامل مع هذا الواجب، إذ شكلت القيم والاخلاقيات والمبادئ الاقتصادية في الاسلام ، منطلق لإعادة صياغة الثقافة الاستهلاكية وضبطها وتقنينها وفق معايير الاعتدال في الانفاق، ومنع التبذير والاسراف، والبخل والتقتير ، والأمر بالتوسط والتوسيع على النفس ونبذ التضييق الذي يؤدي الى الوقوع في المحظور.
إن البحث في مسألة استنطاق القيم تعتبر اليوم مدخلا معتمدا للتوجيه والتثقيف الرسمي والاجتماعي وتوعية الأسر في بدائل الانفاق، في إطار التنوع في الأساليب والأدوات والآليات، وأن يسهم التوجيه الرسمي عبر المؤسسات الدولة الرسمية، والأبوي والاسري والتعليمي والاعلامي في إيجاد ثقافة استهلاكية مرتبطة بمنظومة القيم والأخلاقيات في إدارة المعادلة الاستهلاكية، كمنظومة مساندة في بناء شخصية الفرد الاستهلاكية وتهذيبها وفق أسس ومبادئ متوازنة، وحثها على التقيد والالتزام بأنماط الاستهلاك الصحيحة، بأسلوب يؤكد التأثير والتفاعل والمرونة والاستدامة والتنوع في الخطاب التوعوي، عبر التعريف بنماذج محاكاة وتجارب لنجاحات متحققة وممارسات مجتمعية وفردية جادة، ساهمت في صناعة نجاحات عملية في بناء ثقافة استهلاكية راقية، بما يسهم في مراجعة الممارسات والعادات الاستهلاكية كالتبذير والاسراف والبذخ المادي والشراء بدون نظر إلى مستوى الاحتياج وغيرها من الممارسات سواء كان ذلك في العمليات الاستهلاكية اليومية والأصناف الغذائية أو غيرها من عمليات الاستهلاك، وبالتالي ضبط المسارات الحاصلة، وفتح المجال لتوليد بدائل متجددة في الاستثمار العائلي والأسري ، وتعزيز قيم التوفير وترسيخ السلوك الايجابي لدى الاجيال نحو تبني سياسات الادخار، واعتياد عاداته الحسنة عبر الاستثمار الهادف، وتعزيز قيمة المحافظة على المال وإنشاء صناديق أسرية، وحث الأبناء نحو توجيه ما لديهم من رصيد مالي فائض في مسارات الخير والصدقة والنفع العام، والانفاق في وجوه البر والاحسان والتكافل الاجتماعي والمساهمة في الاعمال التطوعية والمبادرات الجادة وغيرها، إن من شأن هذا التكامل حول جعل القيم والأخلاقيات منطلق لتحسين المعادلة الاستهلاكية، أن يعزز من مستوى القبول الاجتماعي لها، ويؤصل لفرص أكبر لمبادرات الأفراد والأسر، نحو تمكين هذه النماذج الايجابية من تأسيس برامج وتجارب مضيئة في التعامل مع الاستهلاك العام والخاص ومراجعة المصروفات اليومية، بحيث يتجاوز دورها عملية ضبط ثقافة الاستهلاك وتقنين النفقات الاسرية وحسن توجيهها ، بترسخ منظومة اقتصادية متكاملة، توجه مسار الفرد الاقتصادي نحو سلوكيات تنموية قادمة، كقيم التخطيط الاقتصادي وترشيد النفقات، والتوازن في المصروفات، والاستهلاك المقنن وفق الحاجات، وتمنح الفرد فرص الاستثمار في الموارد، والمحافظة على استدامتها، إن استنطاق القيم ، وتأكيد حضورها في المنظومة الاستهلاكية، دفعا لها نحن تلمس الصواب، وبعدا لها من الخلل والزلل والتكلف بغير داع، ويوم أن يقوى ضمير القيم وينمو سلوك المسؤولية، ويبرز عامل الاحتياج والضرورة كمنطلق في الثقافة الاستهلاكية؛ عندها تصبح ثقافتنا الاستهلاكية قائمة على إدراكنا بقيمة المال الذي بين أيدينا، وإحساسنا بأهمية المحافظة على صحتنا الجسدية والنفسية، فيكون استهلاكنا وفق ضوابط وأسس تراعي كل المتغيرات الحاصلة على حياتنا العامة والخاصة، ثقافة راقية تغير نمط الواقع الاجتماعي المعتاد إلى فرض واقع جديد لممارساتنا الاستهلاكية، تأخذ بأيدينا
لنجاحات قادمة وآمال متحققة .
د. رجب بن علي العويسي