السفر.. متعة القلق

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٤/أغسطس/٢٠١٦ ٠٠:٢٠ ص

محمد بن سيف الرحبي
alrahby@gmail.com
www.facebook.com/msrahby

لا أرمي أشرعتــي قادماً من سفر إلا وأقول إنني سأستكين قليلا، وسأقاطع المطارات والطائرات، أستعيد نفسي حينما أضع حقيبتي في البيت آيباً من مدينة ما، لكن هذه الاستكانة سرعان ما تتلاشى إذ تبدأ النفس الأمّارة بالسفر بإطلاق صفارات الحنين إلى بقعة جديدة لتراها، أو واحدة قديمة لتستعيد ذكرياتها فيها.

السفر منفى اختياري، النظر إلى الوطن من على بعد..
أن تسير غريباً، بإحساس غريب.. تعمد إلى مكان ربما يحيّرك في رؤيته، أو في العودة منه، أو في السير في تفاصيله.
السفر فعل ارتباك منذ أن تقرر الذهاب إلى مكتب حجز التذاكر، حينها يغدو السفر واقعاً، يسكنك قبل أن تتجه صوب المطار في الموعد المحدد بالضبط، ويقلقك أن تفوتك الرحلة، وأن يرفض موظف المطار وزن الشحن الزائد في حقائبك، وألا تجد الفندق الملائم، ولا السيارة التي تقلك دون مفاجأة من سائق سيارة أجرة يبتزّك، إن لم تجد من ينتظرك هناك..
في الذهاب أو الإياب، تقلقك عشرات الأشياء، لكنها المتعة اللازمة لتكسر حائط الروتين في أسوار حياتك وهي تتكرر بما لا تقبله النفس الراعفة بالحنين إلى المختلف من التجارب كي تبدو الحياة أجمل وأشهى.
هكذا أقرأ التجربة، وأراها، وأكتبها..
ففي كل مدينة إحساس ما، هو شعور المسافر بالمختلف، ثلج موسكو يتناثر بياضاً على وجه القادم من صحراء يلهبها الصيف، ويغدو شتاء شبه الجزيرة العربية مجرد ربيع موسكوفي، وأسير في بانجلور مغموراً في رائحة المكان التي شكلت جانباً من نسيجنا المحلي، روائح الشرق والبهارات، في جبال أندونيسيا أو على سواحل زنجبار، أو في سوق بابلي يشعر بالقلق رغم أن الزعيم لم يعد يسكن القصر المطل من ربوة المدينة، أو في تقاطيع إنسان يعبر شوارع جورجيا يفتش عن هويته الجديدة بعد تناثر الاتحاد السوفييتي كقطع دومينو ركلها لاعب غاضب أسكرته الفودكا الروسية.
أتوق للسير متدثراً بالبرد، وللتفتيش عن التفاصيل الصغيرة في الأسواق، وللنظر في ملامح البشر ومفارقات الحجر وجماليات الشجر، ولكل سيرته التي لا تشبه أية سيرة، فلا تقاسيم الوجوه تتشابه، ولا الطبيعة، بما عليها من موجودات، ترتدي ذات الأزياء، وهي تعيش أعراسها بحسب تغيّر الفصول.
لكل ساحل على بحر ما حكايته تقولها المدينة للزرقة، ولكل ضفة على النهر إيقاعات الحياة عليها كي تتقن قراءة نوتات النسمات تداعب خدّ الماء ينساب سحراً.
هكذا السفر، حالة اكتشاف للمختلف، وهكذا الأمكنة، لحظة بوح عن التفاصيل، تقرأ كثيراً عن مكان ما، لكن ليس بقدر ما تهبه لك رؤيته عن قرب.
(من مقدمة كتاب سيصدر قريباً بعنوان «على حين سفر»)