ما بين عصي الدمع وثورة الشك

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٣١/يوليو/٢٠١٦ ٠٠:٥٤ ص
ما بين عصي الدمع وثورة الشك

احمد المرشد
كاتب ومحلل سياسي بحريني

قالوا كثيرا عن الحب، فضائله، تأثيراته الإيجابية علي الإنسان، علي الإنسانية، ولنقل علي البشرية كلها، ولكني أزيد علي كل ما قيل بأن الحب عشق، احتواء، اكتفاء، فهكذا يكون الحب بين المحبين، والحب اتصال وكلام وشعر ونثر، وصدق من قال إنه من القلب للقلب رسول، فلذة الدنيا في وصل الحبيب وسماع صوته ولو من بعيد والاستنئاس به لو قريب، أما إذا تجاهل الحبيب حبيبه، فما يعلي هذا من مقام الحب، فما بالنا إذا ما بالغ الحبيب في الهجر والمغالاة في فراقه وتجاهله لحبه!.. هل يريد أن يثبت وجوده في قلب الحبيب؟ أو التيقن من قدره وغلاوته ومحبته؟ اعتقد لا، لأن الهجر والفراق في بعض الأحيان لا يثبت مقدار الحب. وربما تكون لي فلسفتي الخاصة في الحب، فهو لذة الدنيا ووصل السلام، أما إذا تمادينا في الصدود، فهذا يعني وأد للغرام، فالهجر والفراق يكسر القلوب. والخوف، كل الخوف، أن يرحل الحب بسبب الفراق والهجر. والخوف، كل الخوف، ألا يعود الحب بوهجه وحرارته كما كان في زمنه الأول. والخوف، كل الخوف، أن ننكسر من الفراق وتنسي العين شكل الحبيب، فمن رحل لا يعود، وإن عاد لن يكون كما كان في سيرته الأولي.
‏ أقول الي أي مهاجر، إنسان أو إنسانة، في أي مكان أو أي موقع، ياليت المشاعر تري بالعين، لتدركون كم هو الجرح،، ليعرفون قدرهم
ان الإحساس بالوحدة بعد الهجر والفراق يدمي القلوب ويحول الأيام الي جحيم، والسعادة الي نيران ملتهبة لا تنطفأ، والقلب الدامي ترهقه الأحزان ويصير كالمجهول لا يعرف أحد أين سيكون غده، أو حتي كيف سيكون نهاره ويومه، فهو ضائع، جائع، حزين، كسير، بسبب الوحدة، لغياب شريكه في الحياة، لغياب حبه، لغياب عشقه، لغياب حياته، فحبه هو الحياة.
ㅤفأي إنسان يخشي الغياب، والمخيف ، أن يتعود هذا الغياب! فما أقسى الفراق ، وكم يتمني الإنسان أن يري مهاجره ولو صدفة، ولكن ربما لن تصل الأمور الي ما كانت عليه ، فإن عاد الحبيب بعد هجره، فهو لن يكون كما كان..فثمة من يرحل لا يعود، وخوف المحب ، أي محب أن ينطبق هذا علي غائبه ومفارقه.. وثمة من يقول إن المحبة لن تموت حتي لو طال الغياب، فالحب موطن، والحب فكر، والحب قلب، والحب حياة، والحب ليس عابر سبيل، وأنما هو الوطن، والمحب للوطن أسير.
وأقول لاي إنسان مهما كان موقعه أو مكانه او بلده، لا يستطيع العيش بلا حب، فالحب هو كل مؤهلات المرء للعيش في هذه الدنيا، وبالحب يهب الإنسان كل ما لديه من عواطف جياشة، غرام، عشق، فيهب حياته لحبه مثل الكريم الذي يمنح بسخاء.. وسعادته في حبه بأن يوهب محبته لمهاجره، لعله يتعلم منه ليدرك معني العطاء، وتتحرك مشاعره ولا يبخل. فالإنسان بحبه يستطيع أن يلهب القلوب نارا، وباحتوائه واهتمامه بحبه يستطيع أن يحرك القلوب من مكامنها لتكون عواطفها جياشة، فحب أي إنسان يحرك القلوب حتي لو كان قلبه جماد، وحب أي إنسان هو الذي يجعل كل ما يراه جميلا، وكرم أي إنسان وخيره يهبه لم يستحق، وتسامحه يكون لمن يرق قلبه ويلين حتي لو بعد حين..أما المترفع والمتعالي، فالقلوب له لن تلين، فالإنسان الكريم لا يباع أو يشتري إلا بالتواضع وحسن القبول وحلو المعشر وليس بالكبر والغرور، فهذه صفات تزيد الفرقة بين القلوب.. ولعل الإنسان المحب يعيش هنا حياة أبو فراس الحمداني عندما تحدث عن محبوبته التي آلهبت قلبه وهي عنه بعيدة متجلدة بالصبر، وهو بالصبر أصبح مجنونا، ولا يستطيع العيش بدونها، فكتب "آراك عصي الدمع ..شيمتـك الصبـر|أما للهوى نهـي عليـك و لا أمـر| بلى أنـا مشتـاق و عنـدي لوعـة|ولكـن مثلـي لا يـذاع لـه ســر".
نعم أنا مشتاق ومهاجري لا يرق قلبه، ليواصل الحمداني وصف حبه ونار قلبه التي تلهب جوانحه ولا يزال حبه متسلحا بالصبر "إذا الليل أضواني بسطت يد الهـوى|و أذللت دمعا مـن خلائقـه الكبـر|تكاد تضيء النـار بيـن جوانحـيإذاهـي أذكتهـا الصبابـة والفكـر".. فما أصعب ليل العاشق بعيدا عن عشقه، ليل طويل مظلم بلا فجر، بلا بقعة ضوء، بلا أشعة شمس تلتهب.
نعم أنا مشتاق ومهاجري لا يزال يصبر علي هجره بلا معني أو داع، ويعرف مدي ظمآي ويتمادي في البعاد، يعرف مكان الماء ويحجبه في جفاه، وهنا يعود أبو فراس الحمداني لوهجه وتساؤلاته "تسائلني مـن أنـت و هـي عليمـة|و هل بفتى مثلي علـى حالـه نكـر|معللتي بالوصـل و المـوت دونـه|إذا مت ظمآنـا فـلا نـزل القطـر.
نعم أنا مشتاق ومهاجري يلوعني ويعلم ما بقلبي من نار تشتعل من الهجر وهو يتمادي في البعاد، فماذا نقول له سوي ما قاله أبو فراس الحمداني "فقالت لقد أزرى بـك الدهـر بعدنـا|فقلت معاذ الله بـل أنـت لا الدهـر|و قلبت أمـري لا أرى لـي راحـة|إذا البين اضناني الح بي الهج".. نعم أضناني البعاد والح بي الهجر.
نعم أنا مشتاق ولي لوعة، والمهاجر يضنيني بعاده والح بي هجره، وهنا الحديث لكل من يحب، ولهذا فكل هؤلاء يلجأون الي وصف شاعرنا الكبير عبد الله الفيصل في رائعته "ثورة الشك"، فهل العيب في أما في مهاجري، فأصبحت أشك في نفسي كما يقول الفيصل "أكاد أشكُّ في نفسي لأني أكادُ أشكُّ فيكَ وأنتَ منّي"..فكيف أعيش بدونك وأنت مني، وكيف أشك فيك وأنت مني، فأنا صنعتك من هواي وجنويي، ولماذا تخون العهد ولم تحفظ هواي ولم تصني، يواصل الفيصل " يقولُ الناسُ إنّك خنتَ عهدي ولم تحفظْ هوايَ ولم تصنّي"..هذا رغم أن بحت لك بأن كل هواي ومناي في هذه الدنيا، ولم أصدق فيك كذبا قيل عنك في بعدك، ولم لا؟ فأنت هواي وأنت مني وكيف أعيش بدونك، حتي طال بي البعاد " وأنتَ مُناي أجمعها مشتْ بي إليكَ خُطى الشّبابِ المُطمئنِّ يُكذِّبُ فيك كلَّ الناسِ قلبي وتسمعُ فيك كلَّ الناسِ أُذني".
نعم أنا مشتاق ولي لوعة، والمهاجر يضنيني بعاده والح بي هجره، والشك يقتلني وظلاله استعبدتني وأرهقتني حياتي، فهذا ما وصفه الفيصل بكلماته ومشاعره الفياضة " وكمْ طافتْ عليَّ ظلالُ شكٍّ أقضّت مضجعي واستعبدتني كأنّي طافَ بي رَكبُ الليالي يُحدِّثُ عنك في الدنيا وعنّي".
نعم أنا مشتاق ولي لوعة، ومهاجري يضنيني بعاده والح بي هجره ، وهو علي الهجر قائم ومصمم غير مبال بما أضني به محبه من كثرة بعده، وغير مبالي بما أرهقه به وساوس ، ولعل ما قاله الفيصل هنا لخير معبر "على أني أُغالطُ فيك سمعي وتُبصر فيك غيرَ الشكِّ عيني.. وما أنا بالمُصدِّق فيك قولاً.. ولكنّي شقيتُ بحُسنِ ظنّي و بي ممّا يُساوِرُني كثيرٌ من الشَّجنِ المؤرّقِ.. لا تدعني تُعذَّبُ في لهيبِ الشكِّ روحي وتَشقى بالظنونِ وبالتمنّي أجبني.. إذ ا
سألتُك هل صحيحٌ حديثُ الناسِ خُنتَ ألمْ تَخنـّي؟ ..أكادُ أشكُّ في نفسي لأنّي أكادُ أشكُّ فيك وأنتَ مني.. يقولُ الناسُ إنك خنت عهدي و لم تحفظْ هواي ولم تَصُنّي وأنت مُنايَ أَجمعُها مَشتْ بي إليك خُطى الشّبابِ المُطمئن".
لا أقول الي أي مهاجر ، إن الحب نعمة، إحساس، مشاعر فياضة، والأهم من كل هذا فإن الحب احتواء، واهتمام، فبقدر احتواء حبك والاهتمام به سيكون مقدار حبه وعواطفه وعطاؤه، فمن احتوي ازداد حبا، ومن أبدي اهتماما تلوع اشتياقا.. فغياب الاحتواء والاهتمام يجهضان مشاعر الحب مهما كانت فياضة.
الي كل البشر، الي كل من يحب ، فلتواصلوا احتواء من تحبون، واهتموا بهم وبمشاعرهم وبقلوبهم، حتي لا تشتعل النار بين جوانح محبينكم ولا يضنيهم البعاد والهجر..وحتي لا يشمت في المحبين أعداؤهم أو نصدق في المحب قولا يثير الشكوك.