بين بوكيمون وبان كيمون(!)

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٤/يوليو/٢٠١٦ ١٢:١٢ م
بين بوكيمون وبان كيمون(!)

هل البوكيمون مجرد لعبة أم أنها باتت ظاهرة تستحق الدرس والتحليل نظراً لانتشارها الهائل وشيوعها بين الناس في معظم بلدان العالم، وبين شرائح مختلفة من المجتمعات حتى صار مشهداً مألوفاً مرأى الذين يجولون بهواتفهم المحمولة بحثاً عن بوكيموناتهم هنا وهناك، من دون مراعاة لخصوصية الأمكنة التي تقودهم إليها تلك البوكيمونات، وبات معلوماً للجميع أن الشركة المنتجة لتلك اللعبة قد جنت المليارات في أسابيع قليلة وارتفعت قيمة أسهمها بشكل غير مسبوق.

اللعبة ليست جديدة، سبق لها أن ظهرت أواخر الثمانينات من القرن الفائت وأثارت في حينه موجة من الرفض والاستنكار بلغ حد تحريمها تماماً كما هو حاصل الآن، الفارق الوحيد أن التطور التكنولوجي جعلها مختلفة عن نسختها السابقة وساهم في انتشارها بشكل أوسع إلى حد الهستيريا الجماعية. يقول منتجو اللعبة في صيغتها الجديدة المسماة بوكيمون_جو أنها تشجع على الخروج وكسر حاجز العزلة وممارسة رياضة المشي، وقد يكون هذا الأمر صحيحاً إذ أنها من الألعاب النادرة، إن لم تكن الوحيدة، في عالم التكنولوجيا الرقمية التي تستوجب خروجاً إلى الشوارع والساحات بحثاً وتفتيشاً عن...بوكيمون، لكن مقابل هذا الزعم ثمة شكوك وجيهة تراود كثيرين بأن للعبة المذكورة أهدافاً تجسسية أو غايات أخرى مثل جمع الصور والمعلومات عن الأشخاص والأمكنة المختلفة. لو لم تكن تلك الشكوك وجيهة لما قامت دول وجيوش بالتحذير منها وصولاً إلى حد منع استخدامها في الثكنات والمواقع العسكرية والأماكن الحساسة. لن نجزم بأن للبوكيمون أهدافاً تتجاوز اللعب والتسلية، نترك الأمر لأصحاب الشأن والاختصاص، وكما يقول المثل «اليوم الخبر بفلوس، غداً ببلاش». ما يعنينا هو انتشار اللعبة بهذا الشكل السريع، وانجذاب الناس إليها بطريقة تلامس حدود الهوس حتى بتنا نرى بعضهم سائراً كالأبله بين الجموع بحثاً عن بوكيمون وهمي أو افتراضي، فضلاً عن المشاكل الكثيرة التي تتسبب فيها عمليات البحث عن البوكيمونات واقتحام الباحثين لأمكنة الآخرين من دون مراعاة لخصوصياتهم ولعدم رغبتهم في دخول الغرباء إلى منازلهم وفسحاتهم الخاصة، هذا عدا الأذى الذي تلحقه باللاعبين أنفسهم من حوادث سير وسواها. فما هي الأسباب التي تدفع أناساً من أعمار وثقافات ومجتمعات وطبقات مختلفة للاندفاع نحو لعبة ليس فيها الكثير من الفائدة أو الجدوى اللهم إلا إذا اعتبرنا المشي إحدى حسناتها القليلة.
لنقل أولاً إن أهم ما يقوله لنا انتشار البوكيمون وتلك الإيرادات الضخمة التي حققتها الشركة المنتجة للعبة، هو أن «العالم الافتراضي» صار جزءاً لا يتجزأ من عالم الاقتصاد والمال، وميداناً رحباً للاستثمار وجني الأرباح. طبعاً البوكيمون ليست أول ما يقدمه العالم الرقمي في مجال الاستثمار لكنها المثال الأكثر وضوحاً بعد مواقع التواصل التي وضعت مبتكريها في مصاف أصحاب المليارات، ولهذا الأمر مؤشرات مهمة تتعلق بطبيعة الاقتصاد المستقبلي للعالم بأسره في وقت يبدو العرب للأسف غائبين كلياً عن هذا الميدان الواسع المتشعب المتداخل والمؤثر في نواحي الحياة على تنوعها واختلافها.
المسألة الثانية التي يجدر بنّا التوقف عندها هي الدلالات الاجتماعية والثقافية لظاهرة انتشار البوكيمون بهذا الشكل الواسع. نافل القول بالأثر الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الذكية على نمط الحياة والعلاقات الإنسانية، (قد نتوسع لاحقاً في هذا الجانب بالذات)، لكن أن تتحول لعبة افتراضية إلى ظاهرة فهذا برأينا ناجم عن حال من الخواء تسود العالم برمته. عرف العالم على مدار حقبات مختلفة مراحل صعود وهبوط، نهضة وانحطاط، استقرار وصراعات دموية، وكان «لكل زمان دولة ورجال (ونساء)» بحسب المثل. في مراحل التوهج مثلاً كان المفكرون والفلاسفة والمناضلون والفنانون المثقفون هم نجوم المرحلة، ولعل معظمنا قد قرأ أو سمع عن الوجودية والماركسية والسريالية والحركة الطلابية في فرنسا والبيتلز وجون لينون وبقية العناوين والأسماء التي طبعت عقوداً من الزمن ببصماتها. مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين ودخولنا ألفية ميلادية ثالثة كان العالم يطوي حقبة ويستقبل أخرى مشحونة بمشاعر الكراهية والبغضاء والنقمة على سياسات الدول الكبرى خصوصاً في هذا الجزء من العالم حيث نحيا ونعيش، (لهذا أيضاً حديث آخر لاحقاً)، لكن العولمة التي جعلت الكوكب أشبه بقرية كما بات يردد البعض حولته (الكوكب) في الحقيقة إلى «مول» تجاري وسوق كبرى تمتد مساحتها على أرجاء المعمورة كافة. في هذه السوق المعولمة المحكومة من رأسمالية متوحشة ونيوليبرالية أكثر توحشاً ما عاد للإنسان من قيمة سوى بمقدار ما يستهلك أو بمقدار إمكانياته الاستهلاكية، لم يعد العقل مهماً ولا الأفكار والنظريات والأحلام، المهم هو مقدرة كل فرد على اقتناء السلع حتى يكاد يصبح للإنسان نفسه، لا للعملة فقط، قيمة شرائية، وفي غمرة اللهاث اليومي خلف لقمة عيشٍ صارت أكثر صعوبة لم ننتبه أن «العولمة» قد حولتنا نحن أيضاً إلى سلع في سوق نخاسة دولية، أكثر الشعوب تضرراً في هذه «السوق» هي الشعوب الأقل إنتاجاً والأكثر استهلاكاً كما هو حالنا نحن العرب، لذا لم يجد العالم حرجاً في مواصلة ما بدأه منذ «سايكس بيكو» وقبل هذين الاسمين سيئيّ الذكر، أي مواصلة جعل بلادنا العربية مختبراً لمطامعه وسياساته وحروبه وأجياله المتلاحقة من الأسلحة الفتّاكة التي لم تعد تُجرَّب إلا على رؤوسنا. لا، ليس في الأمر جديداً، على الدوام كان هذا الكوكب ملكاً للأقوياء وكان الضعفاء فيه محكومين لا حاكمين، أما العدالة المنشودة فما هي سوى مسيح مخلِّص لم يظهر بعد.
ما علاقة كل هذا بالبوكيمون وهي مجرد لعبة؟ ألا نبالغ في التحليل والربط؟ لعلنا نفعل، لكن الشكوك والريبة هي التي تُظهر لنا اليقين والحقائق، نعتقد أن هوس العالم بلعبة غير مفيدة تهدر الوقت وتشتت التركيز ما هو إلا دليل على الفراغ والخواء، فراغ العالم من الأفكار الملهِمة وخوائه بفعل غياب النظريات والأحلام المبشرة بالعدالة والمساواة، ووقوعه بين فكيِّ أصوليتين متوحشتين: دينية متطرفة قاتلة ومدمرة لمجتمعاتها أولاً لأنها تحتقر الحياة وتعطلها وتراها مجرد ممر تافه غير ذي جدوى(!)، ورأسمالية متوحشة لا ترى في البشر سوى بوكيمونات تكتسب قيمتها من مدى قدرتها على الشراء والاستهلاك، ولا فارقَ أن اشترت لوحاً ذكياً لأجل لعبة أو مقاتلة نفّاثة لأجل حرب، وبين هذه وتلك يبقى عالمنا العربي أسير حروبه وأزماته، ضائع بين دعوات بلهاء لدفن الرؤوس في الرمال وتجاهل كل قضايانا الجوهرية بدءاً من فلسطين وليس انتهاءً بالصومال، أو أصوليات قاتلة تريد مقارعة صنّاع الذكاء التكنولوجي بالسيف والترس(!).
على فكرة: ثمة هيئة عالمية تسمى الأمم المتحدة على رأسها رجل يدعى بان كيمون عاطل من كل شيء إلا من القلق، وما من فارق كبير بينه وبين البوكيمون سوى أن الأخيرة لا تسبب ضجراً كثيراً كما يفعل.