بيمون يمطر الألعاب برقم خرافي... وقبضات اميركية سود في عصر الغليان باولمبياد مكسيكو 1968

الجماهير الأحد ٢٤/يوليو/٢٠١٦ ١١:٣٦ ص
بيمون يمطر الألعاب برقم خرافي... وقبضات اميركية سود في عصر الغليان باولمبياد مكسيكو 1968

مكسيكو-أ ف ب

شيئا فشيئا أصبحت الألعاب الأولمبية “فاصلة” بين الإحداث العالمية الكبيرة، لا بل جسدت معاني الهدنة الأولمبية القديمة، فبدت وكأنها فترة التقاط أنفاس بين جولة سياسية ومطلبية وأخرى.

فقد صادفت ألعاب الأولمبياد التاسع عشر التي أقيمت من 12 إلى 27 أكتوبر في مكسيكو وسط أحداث دامية: حرب فيتنام، اجتياح الاتحاد السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا، اغتيال مارتن لوثر كينج والسناتور الأمريكي روبرت كينيدي، تفاقم الحركات الثورية والطلابية في أنحاء العالم، الثورة الثقافية الصينية وتداعيات الحرب العربية-الإسرائيلية.

وقبل الدورة بعشرة أيام، شهدت ساحة الثقافات الثلاث وسط العاصمة المكسيكية اعتصامات واحتجاجات طلابية وإضرابات وتظاهرات وصدامات مع الشرطة. وبلغت الحصيلة 267 قتيلاً و1200 جريح.
وأوكل الرئيس المكسيكي جاستوفو دياز اورداز مهمة القمع لثلاثة ألاف شرطي أعادوا الهدوء إلى العاصمة وتمكن من إعلان افتتاح الألعاب في هذا البلد النامي، في ظل الحراب.
وكانت المرة الأولى التي تقام فيها الدورة في أمريكا الجنوبية وشارك فيها 5516 رياضياً بينهم 781 امرأة من 112 دولة، تباروا في 172 مسابقة ضمن 18 لعبة هي: كرة القدم والخماسي الحديث والزوارق الشراعية والجمباز والسباحة والمبارزة والتجذيف وكرة السلة والرماية وألعاب القوى والمصارعة والكرة الطائرة والدراجات ورفع الأثقال والهوكي على العشب والملاكمة والكانوي كاياك والفروسية.
وشارك للمرة الأولى كل من الكويت وليبيا وباربادوس وهندوراس البريطانية وجويانا وهندوراس وجمهورية الكونجو الدميوقراطية (زائير) وباراجواي وسلفادور وسورينام وسيراليون وجمهورية أفريقيا الوسطى. كما بدأت المشاركة الألمانية الشرقية.
وأسهم إقامة المسابقات في أماكن على ارتفاع 2250 م عن سطح البحر حيث تقل كمية الأوكسيجين وتخف الأوزان في تدحرج الأرقام القياسية، وبعضها كان إعجازياً. فلا عجب أن يسقط 34 رقماً عالمياً و38 رقماً أولمبيا وبفوارق كبيرة ولافتة، وأن يتمكن مثلاً سبعة من المشاركين في مسابقة الوثبة الثلاثية من “كسر” الرقم الأولمبي وخمسة من “تحطيم” الرقم العالمي، وفي مقدمهم الفائز بالميدالية الذهبية السوفياتي فيكتور سانييف (39 .17 م)، في حين اكتفى الأول في دورة طوكيو العام 1964 البولندي جوزف شميدت بـ 85 .16 م.
واعتمد التوقيت الإلكتروني رسمياً في الألعاب للمرة الأولى علما أن ضبط الوقت أخذ يدوياً وإلكترونياً في مسابقات ألعاب القوى والدراجات والتجذيف والكانوي كاياك والسباحة والفروسية.
وأزال استخدام أرضية الترتان على مضمار ألعاب القوى أي عائق “طبيعي” أمام العدائين، وكان السويدي هانز جونار ليلينوال المشارك في الخماسية الحديثة أول المقصيين من الألعاب بداعي تعاطيه منشطا، إذ وجدت أثار كحول في فحص بوله.
وجمعت الولايات المتحدة 107 ميداليات بينها 45 ذهبية، وتصدرت الترتيب أمام الاتحاد السوفياتي الذي حصد مشاركوه 91 ميدالية (29 ذهبية). وحلت اليابان ثالثة 25 (11)، والمجر رابعة 32 (10) وألمانيا الشرقية خامسة 25 (9).

ماراثون درامي

ولمع الذهب في عنق العداء التونسي محمد القمودي بطل سباق 5 ألاف متر (00 .05 .14 دقيقة)، وهو تقدم على الكينيين كيبكوش كينو
(2 .5. 14 د) ونافتالي تومو (4 .06. 14 د).
وحصد القمودي البرونزية في سباق 10 ألاف م (2 .34 .29 د) خلف تومو (4 .27 .29 د) والإثيوبي مامو وولدي (00 .28 .29 د). ووجد وولدي مشاركته في سباق الماراتون مناسبة جداً وهو القادم من بلد يتميز بوفرة السفوح العالية والهضاب المسطحة المحفزة للجري والخصبة بإنجاب العدائين الجيدين، ففاز مسجلاً 4 .26 .20 .2 س.
لكن السباق المكسيكي كان دراما حقيقية بسبب اختلاف المناخ ومقومات الارتفاع، فمن أصل 82 عداءً أخذوا إشارة الانطلاق أكمل أقل من نصفهم المسافة وبلغوا خط النهاية، وكثرت خلاله حالات الإغماء.
وأفرزت دورة مكسيكو “باقة” من الأسماء التي أنهت مسيرتها أو غيرت مجرى ومفهوم المسابقات، أو أرست قواعد جديدة، ولفتت الأنظار بتصرفاتها، ونجوما صمدوا في تاريخ الألعاب.
والتمهيد السابق لا يمنعنا من الإشارة إلى الزنوج الأمريكين “ملوك” سباقات جري المسابقات القصيرة جيم هاينز وطومي سميت ولي ايفانز، ومواطنهم بطل الوثب العالي ديك فوسبيري ومايسترو رمي القرص آل اورتر، “وشهب” الوثب الطويل بوب بيمون، وجيش العدائين الكينين بقيادة “الضابط” كينو الذي حصد بداية ذهب 1500 م، والتألق الأمريكي-الاسترالي في السباحة، وقصص الأحلام في الجمباز و”عروساتها” الروسيات والتشيكوسلوفاكيات.
والغريب أن سرعة الريح كانت تتوقف دائماً عند مترين في الثانية خلال النهائيات، ما جعل الأرقام المحطمة قانونية مئة في المئة!.
وإذا كان العناء في جري المسافات الطويلة بسبب الارتفاع عن سطح البحر شكل عائقاً أمام كثيرين فان خفة الأوزان سمحت بإنجازات وأرقام في الرمي والوثب. فقد توج اورتر اولمبياده الرابع بذهبية رابعة في رمي القرص، وحسن رقمه نحو أربعة أمتار مسجلا 78 .64 م.
وها هو الطالب الأمريكي الممشوق القوام فوسبيري يقلب موازين الوثب العالي ومعادلاته المتعارف عليها وتقنياته المعتمدة، فقد تخطى العارضة مرتقيا على ظهره ومسجلاً رقماً جديداً مقداره 24 .2 م، مسطراً نقلة جديدة في التطور الرياضي. وأسهم انتشار استخدام الزانة المصنوعة من الألياف الزجاجية في تصاعد مؤشر أرقام القفز بالزانة على غرار ارتفاع مؤشرات أسهم البورصة، وهي باتت مثل الرفاص الذي يرفع المشاركين إلى أعلى. مسابقة افتتحها الروسي بليزنتزوف برقم مبشر (30 .5 م) أي أكثر بـ 20 سنتيمتراً من الرقم الأولمبي المحقق في طوكيو بفضل الأمريكي فريديريك هانسن. ثم سجل الأمريكي بينيل (35 .5 م). واختتم المهرجان الأمريكي الأخر روبرت سيجرين على ارتفاع 40 .5 م، وبفارق المحاولات عن الألماني كلاوس سشبروسكي والألماني الشرقي فولفجانغ نوردويج.

أرضية مطاطية

هكذا بدت الزانة الجديدة هدية تقنية صناعية على غرار بساط الترتان المطاطي الذي لا يتأثر بالأمطار، وعليه تمكن جيم هايز (22 عاما) من كسر حاجز الثواني العشر للمرة الأولى بتسجيله 9.9 ث، وتسجيل الفريق الأمريكي 24 .38 ثانية في التتابع 4 مرات 100 م، رقم عالمي جديد علما أن الفريقين الكوبي (40 .38 ث) والفرنسي (43. 38 ث) صاحبي المركزين الثاني والثالث حطما الرقم العالمي السابق أيضاً.
و”بقبضة سوداء” وعزيمة لا تلين تفوق الأمريكي طومي سميث في سباق 200 م، وكانت الحصيلة رقماً عالمياً جديداً دون 20 ثانية، إذ سجل 83 .19 ث أي اقل بنحو نصف ثانية من الرقم المسجل في دورة طوكيو 1964.

بيمون يحلق

وفي 18 أكتوبر 1968، كان أستاد “ازتيك” في مكسيكو شاهداً حياً على محطة أسطورية في الوثب الطويل هي عنوان الألعاب كماً ونوعاً، جملة وتفصيلاً، بطلها الأمريكي بوب بيمون. والحكام لم يحسبوا حسابها ولم تكن عندهم أساساً أجهزة قياس لتحديد مسافتها، ظن الجميع أن الفائز بالمركز الأول لن تتعدى وثبته 50 .8 م أو 60 .8 م على أبعد تقدير لكن بيمون تخطى الخيال، فالرقم الأولمبي مقداره 07 .8 م، والرقم العالمي 35 .8 م. ورقم بيمون 90 .8 م وهو نفسه لم يصدق ذلك! يومها قيل أن على الجميع الانتظار حتى العام 2000 ربما لكسر الرقم الفلكي الجديد، لكن الأمريكي مايك باول فاجأ الجميع ووثب 91 .8 م العام 1991 في بطولة العالم لألعاب القوى في طوكيو.
حل بيمون أول واكتفى بوثبتين فقط 90. 8 م و04 .8 م، وحل ثانياً الألماني الشرقي كلاوس بير 19 .8 م.
وكانت الشمس ساطعة في سماء مكسيكو أثناء المنافسة، غير أن غيمة كبيرة بدت زاحفة لتحجب سريعا النور وينهمر المطر الغزير.

وقف بيمون مذهولا على غرار باقي المشاركين والجمهور الكبير.

كان بيمون مسمراً في مكانه، مغطياً رأسه بمنشفة بيضاء وملتفاً بحرام بني، لم يتزحزح والمطر يبلله، ثم قرر عدم إكمال المنافسة وقال “شعرت بالانزعاج وأني على وشك المرض تملكني الزكام، أنا غير مصدق ما حصل”.
هذه كانت ردة الفعل الأولى لبيمون بعد فاصل من القفز والوقوف والجلوس والتمدد والنوم على المضمار والبكاء. إذ تحول فجأة من رياضي مغمور قد يجد متنفساً في كرة السلة نظرا لطوله الفارع، إلى نجم يشار إليه بالبنان.
والمفاجأة الأخرى على المضمار كانت بطلتها ابنة مدينة بوردو كوليت بوسون في سباق 400 م، التي أصبحت أول فرنسية تحرز ذهبا أولمبيا في ألعاب القوى منذ تألق ميشلين اوسترماير في دورة لندن 1948.
وربما لم يؤمن ـحد بموهبتها وقدرتها إلا مدربها أيف دوران سان اومير الذي توقع أن تحقق 52 ثانية، وأعدها على هذا الأساس، وهي سجلت 03 .52 ث. ويقال أنها استفادت من إخفاق الأمريكية جارفي سكوت التي حلت سادسة (79. 52 ث)، لتتقدم وتتصدر. لكن النقطة الحاسمة التي جيرت الظروف في مصلحتها، ركضها على سجيتها ومن دون أي ضغط، ونالت تشجيع الجمهور المكسيكي وتصفيقه وتعاطف مع سحنتها السمراء.
واجتاح “إعصار” ميدان الفروسية خلال المسابقة الكاملة، وبقي التفوق من نصيب الرقيب أول الفرنسي جان جاك غويون على صهوة “باتو”.
هكذا عاد الفرنسيون لفرض ومضات من إيقاعهم في بعض المسابقات، بعد دورتين عجاف، وكان البارز في صفوفهم الدراجون دانيال مورلون وبيار ترنتان ودانيال روبييار، فحصدوا أربع ذهبيات من أصل خمس في سباقات المضمار، إذ أحرز مورلون ذهبية السرعة وترنتان ذهبية الكيلومتر ضد الساعة، ورويبيار ذهبية المطاردة الفردية.
وسبق لمورلون أن حل ثالثا في دورة طوكيو، وأول في بطولة العالم في باريس.
ووقتذاك، كانت مسابقة الدراجة بمقعدين معتمدة في برنامج المضمار، وتألق مورلون وترنتان بشكل لافت في طريقهما إلى المركز الأول وبتكتيك متقن.
وفي السباحة، أعلن الأسترالي مايك ويندن (19 عاما) أمام الصحافيين قبيل الانطلاق في سباق 100 م حرة أنه ضامن الفوز، وحقق وعده محققاً رقماً عالمياً جديداً 2 .52 ثانية (الرقم السابق 6 .52 ث). وهو اجتاز نصف المسافة بـ 25 ثانية.
وبفارق يومين بين المنافسة والأخرى وعلى مدى ستة أيام، حصدت الجامعية الأمريكية ديبي ماير (16 عاما) القادمة من ماريلاند ثلاث ذهبيات، إذ فازت يوم 20 ‏أكتوبر في سباق 400 م (8 .31 .4 د)، وفي 22 منه فازت في 200 م (5 .10 .2 د)، وفي 24 منه قطفت الفوز في 800 م (00 .24 .9 د). وانتقل الصراع “الوطني” بين السوفيات والتشيكوسلوفاكيين من “ربيع براغ” إلى قاعة الجمباز، حيث أحرزت السوفياتية ناتاليا كوتشنسكايا الميدالية الذهبية على العارضة أمام التشيكوسلوفاكية فيرا كاسلافاسكا بطلة المسابقة العامة في دورة طوكيو، والبالغ رصيدها خمس ذهبيات وأربع فضيات إضافة إلى ستة ألقاب عالمية.
وأضافت كاسلافاسكا التي أصبحت لاحقا رئيسة للجنة الأولمبية في بلادها، ذهبيتين آخرين إلى رصيدها من خلال احتفاظها بلقب المسابقة العامة وفوزها بمسابقة العارضتين غير المتوازيتين، وبذلك احتكرت كل شيء قبل أن تزين انتصارها بمحبس ذهبي أضاف بريقا إلى ميدالياتها، إذ تزوجت عداء المسافات المتوسطة جوزف اودلوزيل وأعلنت “سيكون أولادنا أبطالا اولمبيين العام 1992”. في طوكيو، وضعت كاسلافاسكا حدا لسيطرة السوفياتية الأسطورة لاريسا لاتينينا التي استمرت 12 عاما.
وفي مكسيكو، خططت للاعتزال وهي في القمة “وهذا ما تحقق، والجمهور اعتبر أنني استحق ذهبية العارضة، وجاءت فرحتي مزدوجة بزواجي من جوزف”.