أ.د. حسني نصر
بعد الحادث الإرهابي الدامي الذي هز مدينة نيس الفرنسية الأسبوع الفائت وخلف أكثر من 85 قتيلا، ومن قبله الحوادث الإرهابية في إسطنبول وبغداد وبروكسل وغيرها، فإن على العالم أن يعترف، اليوم وليس غدا، أن الأساليب التي يتبعها في مكافحة هذا الخطر الداهم الذي يهدد الكل لم تعد تجدي نفعا. في كل مرة يسقط الأبرياء سواء بتفجيرات انتحارية او بإطلاق النار او حتى بالدهس بشاحنة كما حدث في نيس، يتسابق الجميع لإدانة هذه الحوادث والتضامن مع الدولة التي وقع بها الحادث، ومع الضحايا وأسرهم، وتتسابق دول العالم في إصدار بيانات الشجب والتنديد والتضامن مع تأكيد عزمها تشديد إجراءاتها الأمنية ومواصلة حربها العبثية ضد الإرهاب واجتثاث جذوره، من خلال ضرب المدن والقري السورية التي تأوي عناصر تنظيم داعش الإرهابي والانتقام لضحاياها بإسقاط ضحايا جدد في أماكن أخرى من العالم كتب عليهم أن يدفعوا وحدهم ثمن جنون الإرهابيين وجنون العالم المتحضر.
لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن ضرب معاقل تنظيم داعش في سوريا والعراق وإضعافه وحتى القضاء على هذا التنظيم قضاء تاما لا يوقف العمليات الإرهابية، التي لا يمكن توقع من يقوم بها او أسلوب القيام بها. ولعل هذا ما يحتم على العالم كله البحث عن مقاربات جديدة لمواجهة الإرهاب، تبحث في أسبابه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتتجه إلى معالجة الخلل في النظام الدولي الذي أنتج هذه الظاهرة وسمح لها بالاستمرار كل هذا الوقت، رغم كل ما تبذله الدول من جهود وأموال وأرواح لمكافحته.
من المؤكد أن لا شيء يبرر الإرهاب او قتل الأبرياء لأي سبب كان، ومن المؤكد أن أدانة الأعمال الإرهابية أمر مهم، ولكن الأهم في هذه المرحلة التي ثبت فيها عجز العالم عن وقف المد الإرهابي وتزايد إمكانية وصوله إلى أي مكان على وجه الأرض، أن يتوقف الجميع ليسألوا أنفسهم ما الذي يجعل هذا الفعل المرفوض عالميا يستمر كل هذا الوقت، وما الذي يدفع شاب فرنسي مكتئب من أصل تونسي أن يقود شاحنة ويقتحم بها تجمعا بشريا بهدف القتل، او يدفع أخرين إلى إدخال متفجرات إلى مطار بروكسل أو مطار أتاتورك.
لقد تحولت الحرب على الإرهاب إلى أسطورة زائفة، فمنذ أن أعلنها جورج بوش الابن في أعقاب أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة لا الحرب توقفت، ولا الإرهاب توقف. منذ هذا التاريخ سخرت الدول الكبرى كل إمكاناتها العسكرية والدعائية لهذه الحرب، وأعطت نفسها الحق في استباحة دول وغزوها وقتل الملايين من أبنائها وأعادتها عشرات السنوات إلى الوراء، ومع ذلك لم تتوقف الحرب وانتقلت إلى دول أخرى وأحالت مدنها التي كانت عامرة إلى مدن أشباح، وأنتجت مشكلات عالمية جديدة عجز العالم عن علاجها مثل مشكلة اللاجئين. منذ هذا التاريخ أيضا لم تتوقف الأعمال الإرهابية سواء المنظمة التي ترعاها تنظيمات إرهابية او الفردية التي ضربت دول عدة في جميع قارات العالم تقريبا. ومع ذلك تصر الدول الكبرى على الاستمرار في نفس النهج: يضربها الإرهابيون دون سابق إنذار، فتضرب هي شعوب دول أخرى بعيدة عنها بقسوة، فيتولد إرهاب جديد يعود فيضربها، لتستمر دائرة الإرهاب والإرهاب المضاد دون توقف.
يحتاج العالم إلى مقاربة جديدة للتعامل مع التهديدات الإرهابية، نقطة البدء فيها هي تحقيق العدالة في تسيير أمور العالم وقيادته. فالعنف لا يولد سوى العنف، أما العدل فانه يقود إلى السلام العالمي. من مصلحة الدول الكبرى أن تخفف قليلا من قبضتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على العالم حتى يتنفس ويحيا الجميع بسلام. علينا أن نعترف بأن النظام العالمي الحالي الذي وضعت أسسه منذ أكثر من سبعين عاما أصبح نظاما غير عادل، وهو الذي ينتج كل هذا الإرهاب الذي نعاني منه، ولذلك يجب تغييره واستبداله بنظام عالمي جديد لا تحتكر فيه خمس دول فقط إدارة العالم عبر استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن، ولا تعطي فيه دولة كبرى نفسها حق تقسيم الدول الأخرى إلى دول خير ودول شر وحصار الدول وغزوها. نحتاج إلى نظام عالمي غير عنصري تتمتع فيه دول وشعوب الشمال بكل الحقوق، بينما تحرم دول الجنوب الفقيرة من ابسط الحقوق الإنسانية.
أن علينا أن ندرك أن الإرهاب العالمي سيتوقف ويفقد عناصره ومناصريه عندما تتوقف المظالم وعندما تتوقف الدول الكبرى عن إرهاب الشعوب المستضعفة والتضييق عليها، وعندما تسعى من خلال نظام عالمي جديد وعادل إلى حل النزاعات بين الدول وداخل الدولة الواحدة بالتفاوض والطرق السلمية وليس بتزويد كل أطراف النزاع بالسلاح والتحريض على الحرب. إذا أردنا أن نوقف نزيف الإرهاب حقا فان على الدول الكبرى أن تضمن الحد الأدنى من حياة إنسانية كريمة لشعوب الدول الفقيرة من خلال إسقاط ديونها ومساعدتها على النهوض اقتصاديا بدلا من التآمر عليها وإذلالها بالديون والمساعدات الزهيدة.
لقد فاض كيل البشرية كلها من الإرهاب سواء كان إرهاب التنظيمات أو إرهاب الدول الكبرى، وحان الوقت لمراجعة أمينة وإنسانية لكل ما يجرى من حروب عبثية برعاية وتواطؤ غربي- أمريكي. لقد كان من الأجدى للرئيس الفرنسي هولاند أن يقول بعد حادث نيس الدامي أن بلاده ستراجع استراتيجيتها في مكافحة الإرهاب لتعرف ما الذي يدفع شابا فرنسيا للقيام بمثل هذا العمل، وأنها ستتوقف عن خلق أعداء جدد لها من الشباب الذين يشعرون بالظلم في العالم الإسلامي، ولكنه بدلا من ذلك توعد بمزيد من الضربات في سوريا!! افتحوا نوافذ الأمل في عالم يسوده العدل وتوقفوا عن الإرهاب العسكري والاقتصادي الذي تمارسوه على الشعوب الأخرى لكي تتخلصوا من أسطورة الإرهاب العالمي.
أكاديمي في جامعة السلطان قابوس