زاهي وهبي
في أزمنة الانحطاط يُبتذَل كل شيء، اللغة والخطاب وعلاقات الناس فيما بينهم، تعمُّ الكراهية والأحقاد، يعلو التصفيق لخطاب الغرائز والعصبيات، يغدو كلام العقل مرذولاً مظلوماً مثل الأيتام على موائد اللئام. اذا كان من غير المستغرب لجوء عوام الناس الى لغة التحريض والابتذال والكلام الجارح، فإن انخراط نخب ثقافية واعلامية وسياسية في مستنقع الفتن وبثّ الشقاق يغدو موضع رفض واستنكار لا مجرد استغراب واستهجان، بل ان لغة بعض النخب تتجاوز بأشواط لغة الشارع التي تبدو أحياناً كثيرة أرقى من السُّم الزعاف الذي يبخّه أولئك المنخرطون في مشاريع تفتيت بلادنا أكثر مما هي مفتتة ومجزأة.
كي لا نظلم شرائح واسعة من الناس حين نتحدث عن العوام، نسارع الى القول أن بين العوام من هم أكثر وعياً من تلك الفئات المسماة نخباً زوراً وبهتاناً، لقد كشفت أحداث "الربيع الدموي" حجم الفجوة التي تفصل المثقف العربي عن الواقع (مع تجنبنا الدائم للتعميم واعترافنا بوجود استثناءات). لو توفر للناس خطاب سياسي وإعلامي هادىء وعقلاني يحترم عقول الناس وأصول الخلاف لأنحاز الشارع برمته الى صلاح الأمة وخيرها، لكن كيف السبيل الى ذلك ما دام الاعلام بشقيه التقليدي والالكتروني يملأ الفضاء الواقعي والافتراضي بالسموم، ويحثّ الناس على الشقاق والفتن من دون أي وازع وطني أو أخلاقي؟
رُبَّ قائل أوَتستغربون اللغة الفتنوية القاتلة المدمرة فيما الحروب الطاحنة تعمّ المنطقة والموت الزؤام يحصد مئات الألاف من الأرواح البريئة، هدير الطائرات يصمّ الآذان، وصيحات التكبير ذبحاً وسحلاً تتعالى من هنا وهناك؟ جوابنا أن أول الحرب كلام، والكلمة اما تسعّر إوار الحروب أو تُضمد جروحها الدامية. إليكم ما كتبه نصر بين سيّار آخر ولاة الأمويين على خراسان الى مروان بن محمد آخر حكّام بني أميّة في دمشق:
أرى تحت الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تُذكى
وإن الحرب مبدؤها كلام
فإن لم يطفها عقلاء قوم
يكون وقودها جثث وهام
الى أن يقول:
ففرّي عن رحالك ثم قولي
على الإسلام والعرب السلام.
هذه الأبيات قيلت في مطلع القرن الثاني للهجرة، أي قبل أكثر من ١٢٠٠سنة، والحال على حالها، لا عقلاء يساهمون في إطفاء نيران الحروب، ولا مَن يقيم وزناً لكلامه فيطلقه على عواهنه حتى لو كان إذكاء لنار الفتنة وصبَّاً للزيت عليه. لا يستخفنَّ أحدٌ بأهمية الكلام وتأثيره في النفوس، لولا الجاهزية النفسية والفكرية لدى الناس، التي تولاها أهل الساسة والإعلام، لما نجحت مشاريع الفتن في السريان كالنار في الهشيم. من هنا نقدنا الدائم لخطاب الكراهية والغُلو، فالحرب والقتل ولغة النار والبارود مرفوضة من قبلنا جملة وتفصيلاً، هذا أمر نعتبره تحصيل حاصل. لئن كنّا ندعو الى عقلنة الخطاب السياسي والاعلامي والفكري والثقافي، فلغاية واحدة هي وقف الحروب والانهيارات والتشظيات التي تهدد النسيج الوطني والاجتماعي لبلداننا، وتنظيم الخلاف وتحويله ظاهرة صحية تجعل المختلفين يتنافسون ديمقراطياً على تحقيق مصالح البلاد والعباد.
ما نفترضه ونرجوه أن خطاب النخب ينبغي أن يكون أكثر وعياً ورقياً وأن يسمو على لغة الابتذال والتحريض واللعب على وتر الغرائز والعصبيات، وأن يرتقي بالخلاف الى أعلى عِوَض أن يهبط به الى أسفل سافلين. يقال إن الإناء بما فيه ينضح. اذا كنت مثقفاً واعياً تغلّب لغة عقلك على لغة غرائزك فان ذلك سوف يتجلى في خطابك اليومي وفي علاقاتك مع الآخر، خصوصاً الآخر الذي لا يشاركك الأفكار والقناعات نفسها، أما اذا كان خطابك عصبياً جاهلياً يغرف من قاموس الرداءة والابتذال فأنت، لا تؤاخذني، مجرد منتحل صفة لا صلة لك بالثقافة وأهلها.
أن يكون خطابك عقلانياً لا يعني ألا يكون لك موقف أو رأي، على العكس تماماً، لا يمكنك أن تكون مثقفاً اذا كنت بلا موقف مما يجري حولك ويحيط بك، لكن العقلانية هي أن تعبّر عن موقفك بطريقة راقية غير مبتذلة، أن تحاول رأب التصدعات الهائلة في مجتمعك وبين ناسك، أن تنأى عن لغة القدح والذم والتحريض على الشقاق والفتن، أن تحترم الرأي الآخر المختلف، أن تحرص على أهلك وناسك فلا تشحن نفوسهم بما يقودهم الى مزيد من الخراب والمحن، أن تقول موقفك الواضح الصريح بلا مواربة أو خوف أو خجل ولكن بلغة تشبه صفتك كمثقف، لا بلغة أكثر فتكاً من الرصاص والسكاكين. خطاب الغرائز يمكنه أن يحصد التصفيق الآني، لكنه خطاب لحظوي زائف وزائل، أما خطاب العقل فيحفر عميقاً في الوعي والوجدان، ويساهم في تراكم وعي جمعي يؤسس لفتح منافذ خلاص من المِحنة الكبرى التي تعصف رياحها بِنَا من كل "حرب" وصوب. بلادنا بأمسِّ الحاجة الى تواضع وتسامح وخَفَر، لا الى عنتريات وعرض عضلات وبطولات وهمية.
كنّا صغاراً نقول لمن يتلفظ بكلمات نابية: "الكلام صفةُ المتكلم"، كبرنا ولا يزال الكلام صفة المتكلم، ما تقوله يُعبّر عنك أولاً، وما تقوله يعود إليك بشكل أو بآخر، وهذا بحثٌ آخر لنا اليه عودة.