علي الأنصاري يكتب: مهرجان الشعر العماني: محفّز للصناعات الثقافية أو تعبئة لخانات الـ (KPIs)؟

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٥/ديسمبر/٢٠٢٥ ١٤:٤٩ م
علي الأنصاري يكتب: مهرجان الشعر العماني: محفّز للصناعات الثقافية أو تعبئة لخانات الـ (KPIs)؟

تُعرَّف "مؤشرات الأداء الرئيسية" الـ(KPIs) باختصار على أنها "مقاييس (كمية/عددية) لتحديد مدى تقدُّم المؤسسات نحو تحقيق أهدافها المؤسسية"، وبما أن المقاييس هنا تستند على (الكم) وليس (الكيف)، وفي الوقت ذاته جميع المؤسسات الحكومية مُلزمة بتنفيذ عدد معين من الفعاليات سنوياً وتعبئة خانات الـ (KPIs) الفارغة، فبإمكاننا من هذا المنطلق وبكل أريحية أن نقول للجنة المُنظمة لـ“مهرجان الشعر العماني 2025": شكراً جزيلاً على تحقيق الأرقام المُستهدفة التي أُعلن عنها رسمياً في وسائل الإعلام "المحلية" قبل انطلاقة الحدث، حيث تم فعلياً "اختيار 20 قصيدة في المجالين الفصيح والشعبي لتتأهل للمشاركة"، وتم توجيه عدد معين من "الدعوات المباشرة للشعراء العُمانيين من أصحاب التجارب الكبيرة والبارزة ليحلوا ضيوفًا" و(حضر 10 شعراء)، كذلك تم استضافة "7 شعراء من خارج سلطنة عُمان (رغم الإعلان عن 8 سابقاً)"، بالإضافة إلى "تكريم 4 شعراء عمانيين (2 منهم من الراحلين)، وهكذا "تم بحمد الله" تعبئة خانات الـ (KPIs) لمشروع المهرجان بنجاح "باستثناء خانة الشعراء الضيوف التي نقصت شاعر واحد (ولكن لا بأس)"، ونلقاكم على خير في النسخة القادمة مع مقاييس (كمية/عددية) جديدة.

و"لكن" مهلاً! قبل أن نطوي صفحة نسخة العام 2025؛ ماذا عن (الكيفية) التي تم بها تحقيق المقاييس (الكمّية) المذكورة أعلاه؟ كيف تم اختيار الـ (20) قصيدة التي تأهلت للمشاركة في أمسيات المهرجان"، من هم أعضاء لجنة التقييم وما هي إمكانياتهم؟ وفي الجانب الآخر؛ ما هي المعايير التي اعتمدت عليها اللجنة المنظمة في توجيه الدعوات المباشرة للشعراء العُمانيين، وكيف تم تصنيفهم على أنهم من "أصحاب التجارب الكبيرة والبارزة"؟ هل بناء على عُمر الشاعر وأقدمية وجوده في الساحة؟ أو علاقاته الشخصية؟ أو مشاركته في برنامج تجاري جماهيري لا علاقة له بالشعر؟ أو شهرته على منصات التواصل الاجتماعي؟ وكذلك الأمر نفسه فيما يتعلّق بـ "الشعراء الضيوف من خارج سلطنة عُمان"، وأيضا "الشخصيات العُمانية المكرمة" الأحياء منهم والأموات؛ حيث صرّحت اللجنة أنها "وضعت معايير واشتراطات دقيقة وواضحة لاختيار المكرمين والضيوف من داخل سلطنة عُمان وخارجها"؛ فلماذا إذن لا تقوم بنشر هذه المعايير والاشتراطات في العلن؛ لشحذ هِمم الشعراء الذين يعيشون على الهامش، وتشجيعهم في محاولة لدفعهم على الاجتهاد الدائم والعمل الدؤوب على تطبيقها حرفياً، عل وعسى أن يحظى أحدهم بشرف "الاختيار" والدعوة أو التكريم في حياته أو مماته!

هل هذا كل شيء؟ بالطبع لا، فبعد الإجابة على جميع الأسئلة أعلاه؛ سنجد أنفسنا أمام سؤال اعتيادي آخر، ولكنّه أكثر أهمية وعمقاً وتشعّباً، وهو: ما جودة المخرجات النهائية لمهرجان الشعر العماني 2025 استناداً إلى (الكيف) هذه المرة وليس (الكم)؟ وللإجابة على هذا السؤال بعين متابع من خارج القوقعة وليس مشارك من داخل الزوبعة، لا بد من معرفة الأهداف العامة "المعلنة" التي تسعى اللجنة المُنَظِمَة لتحقيقها من خلال إقامة هذا المهرجان، وأبرزها: "الاحتفاء بالشعر العُماني وتاريخه العريق، وتعزيز الحوار الثقافي والتواصل بين الأجيال الشعرية المختلفة، إلى جانب تسليط الضوء على المشهد الشعري العُماني، وإيجاد مظلة واسعة للقاء الشعراء وتبادل الأفكار والتجارب من مختلف البلدان العربية، وتطوير المهرجان وتجديده لاستيعاب مختلف الأجيال الشعرية وإتاحة الفرصة للجميع للمشاركة"، وهذا ما يتطلبُ على أرض الواقع جهداً مضاعفاً يتناسب مع معطيات المرحلة الحالية ويلبي احتياجات الساحة الشعرية العمانية وكل ما يتعلّق بها من شعراء ونقّاد ومتذوقين ومتابعين وجمهور عبر تنظيم حدث متكامل يتكئ على إرث يمتد لـ 27 عاماً ويتجاوز شكلاً ومضموناً (إلى الأفضل) الـ (12) نسخة السابقة من المهرجان بما يواكب تطلعات النهضة المتجددة، وذلك من خلال استحداث برنامج فعاليات حيوي ومرن وزاخر يتماشى مع توجهات مختلف الأجيال بالمزج بين الموروث والعصرنة، وعلى خط موازٍ يتم توجيه الدعوة لأكبر عدد من الشعراء والمهتمين والجمهور على اختلاف مدارسهم وتوجهاتهم الشعرية، وتفعيل خطة إعلامية مُحكمة بأدوات متنوعة تستهدف مختلف الشرائح وتساهم في إيصال الشعر العماني إلى أكبر شريحة ممكنة داخل سلطنة عمان وخارجها، وإيجاد استراتيجية تسويقية قابلة للتنفيذ وقادرة على الترويج لـ"المهرجان" من جهة، ولـ "الشعر" باعتباره أداة فاعلة من أدوات "القوة الناعمة" التي تتسابق الكثير من الدول في وقتنا الراهن للتسلّح بها من جهة أخرى، فهل فعلاً نجح المهرجان في تحقيق هذه الأهداف البرّاقة والطموحة على أرض الواقع؟

بإمكاني كمتسابق وإعلامي وضيف في نسخ المهرجان أعوام (2008، 2010، 2012، 2014) وحاضر ومتابع عن قرب لبقية النسخ ما سبق منها وما تلى بحكم عملي في الصحافة الثقافية فيما مضى؛ بإمكاني أن أجيب عن هذا السؤال بتقسيم المهرجان إلى ثلاث مراحل، ولنبدأ من مرحلة ما قبل انطلاقة المهرجان الذي أقيمت فعالياته خلال الأسبوع الماضي (في موقعين مختلفين بالعاصمة مسقط)، حيث اكتفت اللجنة المنظمة بالإعلان عن شروط المنافسة والتقديم للتأهل للمشاركة في مهرجانها من خلال خبر صحفي (يتيم) في وسائل الإعلام المحلية ومنشور إلكتروني (بتصميم تقليدي) على حساباتها بمواقع التواصل الاجتماعي بتاريخ 31 أغسطس الماضي على أن يغلق باب التسجيل 1 أكتوبر (شهر واحد فقط!) وبنفس الصياغة المتبعة في إعلانات النسخ السابقة، ثم الإعلان عن النصوص المتأهلة للمشاركة في المهرجان يوم 17 نوفمبر الماضي من خلال منشور (واحد) على الحسابات التفاعلية (الفرعية) للجهة المنظمة في التواصل الاجتماعي (وليست الرئيسية) عبر ذكر اسم الشاعر وقصيدته (فقط) دون صورته التي كان إرسالها شرطاً أساسياً لقبول قصيدته في نظام المشاركة!، ليبدأ الإعلان عن تفاصيل المهرجان (بالتقطير غير المبرر) قبل 5 أيام فقط من انطلاقته وبالأدوات والوسائل الإعلامية نفسها (خبر + منشور) مع محاولة (يتيمة) لتركيب صوت على صورة متحركة واعتباره (فيديو) إلى أن تم أخيراً الإعلان عن تفاصيل برنامج الفعاليات متضمناً الزمان والمكان قبل يومين فقط من المهرجان دون إقامة مؤتمر صحفي -يعطي أهمية للحدث- كما جرت عليه العادة في كل نسخة، ودون وجود أي إشارة واضحة في الإعلانات إن كانت الدعوة لحضور الفعاليات عامة أو خاصة أو تحتاج لتسجيل! لتبدأ بعد ذلك المرحلة الثانية وهي مرحلة أثناء المهرجان، والتي تضمّنت حفلي افتتاح وختام، وثلاث أمسيات شعرية للضيوف والمشاركين، وجلستين نقديتين حول تجارب الشعراء المكرمين، بالإضافة إلى رحلة بحرية (يبدو أنها لم تُبحر)، أمّا مرحلة ما بعد المهرجان، فكانت كالعادة مغيّبة، يسدل الستار دون رؤى واضحة حول مخرجات النسخة الحالية ومستقبل القادمة!

إجمالاً: لا أحد ينكر الجهد المبذول في تنظيم “مهرجان الشعر العماني 2025"، لكنه لم يكن كافياً لتطويره عن النسخ السابقة وتحقيق الأهداف البرّاقة والطموحة المعلنة من نوع "الاحتفاء بالشعر"، و"تسليط الضوء"، و"مظلة واسعة"، و"تطوير المهرجان"، و"استيعاب مختلف الأجيال"، و"إتاحة الفرصة للجميع"، إن لم يكن قد تراجع في بعض المؤشرات والعناصر، بدءاً من أبسط الأمور مثل عدم تجهيز مسرح (مخصص فقط للمهرجان) بديكور ومنصة فخمة تبرز مكانة الشعر والشاعر وتساعد على تسويقهما، مروراً بعدد الشعراء المتأهلين الذي انخفض من (30) مشاركاً في النسخ الماضية إلى (20) مشارك، كما ظهر جلياً في هذه النسخة الانحياز لمدارس شعرية معينة؛ (فعلى سبيل المثال غالبية النصوص المتأهلة وأعضاء لجنة التقييم والضيوف من خارج السلطنة في مجال الشعر الشعبي يميلون إلى الكتابة التقليدية؛ الأمر الذي أدى بصورة واضحة إلى غياب القصيدة الحديثة التي تغبطنا عليها الساحات المجاورة في عملية إقصاء مستغربة، والدليل على ذلك عدم تأهل أي قصيدة تفعيلة شعبية!)، وغابت أيضاً الندوات المتخصصة التي كانت تقام على هامش المهرجان (مثال: ندوة "الشعر الشعبي العماني.. متطلبات التجديد وسؤال الهوية" في صحار، وندوة "رصد العلاقات البينية في الثقافة العمانية، أفرادًا ومؤسسات وإعلامًا" في نزوى)، ولم تبث الأمسيات الشعرية للمهرجان على الهواء مباشرة في التلفزيون الرسمي كما كان يحدث سابقاً (وتم الاكتفاء ببث أمسيتي الافتتاح والختام الرسميتين)، ولم تعرض جميع القصائد المتأهلة في الشعر الفصيح ليومنا هذا على أي منصة إعلامية!، بينما تم بث أمسية الشعراء الضيوف وأمسية الشعر الشعبي على اليوتيوب بإخراج متواضع وصورة مهزوزة وجودة صوت رديئة، ولا وجود لأي مبرر أو سبب لهذا الربكة؛ إذا ما علمنا أن الاستعدادات لتنظيم هذا الحدث بدأت مبكراً في ديسمبر 2024 على أقل تقدير عندما دعت اللجنة المنظمة للمهرجان عدداً من الشعراء العمانيين على إفطار صباحي بهدف وضع مقترحات لتطويره!، ومن جانب آخر لم تحظَ القراءات النقدية للشعراء المكرمين بتسليط الضوء "اللازم" عليها وإبراز نتاج الأحياء منهم والأموات، وتم الاكتفاء بنشر مقاطع مرئية عن التجارب الشعرية المكرمة لا تتجاوز الدقيقة ولا تحتوي حتى على صور المكرمين أنفسهم إلى جانب التغطية الإعلامية التقليدية الاعتيادية في الوقت الذي ركّز فيه الإعلام الحديث على المهرجان نفسه وجهود تنظيمه أكثر من الشعراء ونظمهم/قصائدهم، وعندما حاول التغيير طرح أسئلة عليهم من نوع "ما البيت الشعري الأقرب لقلبك؟" و "لو لم تكن شاعراً ماذا ستكون؟" و "هل تكتب القصيدة بالقلم أو كيبورد الهاتف"!، وعندما قرر المنظمون الاستعانة بأحد المشاهير على منصات التواصل الاجتماعي للترويج عن فعاليات المهرجان، بدأ عمله في اليوم الأخير من خلال الدعوة للحفل الختامي!، وإن كان المهرجان إلى الآن لم يتجاوز ويصحح مثل هذه الإشكاليات البديهية وغيرها، فلا حاجة للذهاب أبعد من ذلك وطرح أسئلة حالمة مثل لماذا لا يكون المهرجان عالمياً عبر استضافة شعراء أصحاب تجارب عابرة للقارات من خارج الوطن العربي أو على الأقل بث الحياة فيه والتفاعل مع القضايا الآنية مثل الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية الذي يوافق 18ديسمبر من كل عام على هامش فعاليته، ولا حاجة أيضا لمقارنته بالفعاليات الثقافية التي تقام في الدول المجاورة، حيث أن هناك نماذج محلية تجاوزته بمراحل؛ فعلى سبيل المثال، قد يكون من المجحف مقارنته مع مهرجان الدن الدولي للمسرح الذي أقيم نهاية شهر نوفمبر الماضي استناداً إلى العمر الفعلي للفعاليتين (1998/2018) وصفة الجهة المنظمة (حكومية/أهلية)، فبشهادة الكثير من المختصين في الساحة الثقافية، استطاعت فرقة مسرح الدن للثقافة والفن أن تحقق نجاحاً باهراً في مهرجانها من حيث كثافة برنامج الفعاليات المصاحبة وتنوعه والانتشار الإعلامي الواسع وطريقة إخراج الرسائل المرئية وآلية التسويق الرشيقة التي استطاعت جذب شرائح كبيرة من الجمهور، وعلى ذكر الحضور الجماهيري؛ لا بد للجنة المنظمة أن تتساءل : لماذا حضر الآلاف من محبي الشعر لأمسيتي الشاعر الكويتي "حامد زيد" في مسقط 2008 وصحار 2022 بينما لم تمتلئ نصف قاعة (تتسع لـ 500 شخص) في أمسية الشاعر نفسه ضمن ليالي المهرجان (مع وجود 6 شعراء آخرين من خارج السلطنة بجانبه)، والتي كان غالبية حضورها من المنظمين والمشاركين أنفسهم! ولماذا احتشد الجمهور في الليلة نفسها (16 ديسمبر 2025) من مختلف شرائح المجتمع والنخب والجنسيات والمحافظات في أمسية شعرية (أحياها أربعة شعراء عمانيين) أقيمت ضمن فعاليات "الليلة العمانية" في الميدان البحري بالأوبرا السلطانية على الرغم من أن الإعلان عنها تم قبل 3 أيام من إقامتها؟ (وبالإمكان الرجوع لفيديوهات وصور هذه الأربع أمسيات، فهي متوفرة إلى الآن على شبكة المعلومات).

وختاماً: انتهى مهرجان الشعر العماني 2025 الذي انتظرته الساحة الثقافية بفارغ الصبر بعد توقف (7) سنوات دون أن يستجد أي شيء فيه عن النسخ السابقة، وهذا ما لا يتماشى إطلاقاً مع الجهود المبذولة خلال الأعوام الخمسة الماضية في القطاعين العام والخاص والرامية إلى إيجاد مُحفزات ومُمكنات لصناعات إبداعية وثقافية بالإمكان الاستثمار فيها من جهة، والأصوات المتزايدة والمطالبة بإنعاش الساحة الشعرية العمانية التي دخلت منذ فترة ليست بالقصيرة في مرحلة ركود على جميع المستويات وأصبحت تتسم بالجهود الفردانية من جهة أخرى، الأمر الذي يحتّم على الجهة المشرفة على المهرجان أن تبدأ بإجراء تغيير جذري (شكلاً ومضموناً) يتم من خلاله الاستفادة من التجارب الأخرى المتحققة والتعامل مع الشعر على أنه "إرث عماني عظيم" لا بد من إبرازه كما قيل في كلمة حفل افتتاح النسخة الماضية من المهرجان، وليس مجرّد مشروع مؤسسي لتعبئة خانات الـ(KPIs)!