
بالحبر السري..
ثمة لحظات في تاريخ الرياضة لا تُقاس بقيمة المبلغ الذي يُعلن، بل بقيمة التحول الذي يخلقه.
واليوم، يبدو أن الاتحاد العُماني لكرة القدم قد دخل رسميًا مرحلة جديدة من التفكير الاستراتيجي، مرحلة لم يعد فيها الدعم مجرد بند مالي، بل أداة تغيير تعيد تشكيل البيئة التي تنمو فيها اللعبة.
في خطوة لافتة وفي سابقة هي الأولى من نوعها، ضخّ الاتحاد مبلغ 600 ألف ريال عُماني — قيمة رعاية جندال — لأندية النخبة، ثم أعقبها بتخصيص 150 ألف ريال عُماني من رعاية عُمانتل لدعم كأس حضرة صاحب الجلالة السلطان لكرة القدم.
هذه القرارات ليست مجرد دعم مالي… بل بوادر نهضة هادئة تعيد تعريف العلاقة بين الاتحاد والأندية والبطولات.
قراءة عميقة في القرار..
عندما تُمنح أندية النخبة دفعة مالية بهذا الحجم، فإن ذلك يعني إرسال رسالة واضحة:
“نحن ندعمكم لتصنعوا الفارق… وليس لتغطوا العجز فقط.”
الاتحاد هنا لا يحل مشكلات آنية، بل يضع لبنة أولى في مسار أبعد، مسار يقوم على ثلاثة مرتكزات:
موازنة التنافسية..
الدوريات العربية الناجحة اليوم — من السعودية إلى قطر إلى الإمارات — تقوم على مبدأ بسيط:
المال يخلق بيئة تنافسية، والبيئة التنافسية تخلق منتجًا كرويًا ناجحًا.
• في السعودية، بلغ إنفاق الأندية على التعاقدات موسم 2023 أكثر من 3.7 مليار ريال سعودي، ما أدى لارتفاع قيمة الدوري بنسبة 300%.
• في قطر، ارتفع مستوى الدوري بعد زيادة دعم الأندية بنسبة 40% بين 2019 و2022.
• في الإمارات، ساهمت زيادة الموارد في رفع القيمة السوقية للدوري إلى 1.4 مليار دولار.
وعُمان اليوم، ولو بخطوة بحجم نصف مليون ريال، تدخل المسار ذاته بطريقتها الخاصة: طريقة تراعي الواقع، لكنها لا تتخلى عن الطموح.
بناء الاستقرار داخل الأندية..
الأندية لا يمكنها تطوير أكاديميات، أو تجهيز فرق، أو الاستثمار في لاعبين، دون سيولة مالية مستقرة.
وهذه الخطوة تمنحها القدرة على:
• تحسين عقود اللاعبين المحليين
• تطوير فرق المراحل السنية
• رفع كفاءة الأجهزة الفنية
• تقليل الديون التي تعيق خطط التطوير
تعزيز قيمة البطولات المحلية..
دعم كأس جلالة السلطان بــ 150 ألف ريال لا يُعدّ دعمًا ماليًا وحسب، بل هو رفع لقيمة البطولة، وإعادة ترميم هويتها بوصفها أهم بطولة وطنية.
فعندما يرتفع الدعم، ترتفع قيمة الجوائز، ويرتفع مستوى الإقبال الجماهيري والإعلامي، ومعه يرتفع مستوى الفرق.
هكذا تبدأ الدورة الصحيحة لتنمية كرة القدم.
خطوة تتجاوز المال.. إلى صناعة المستقبل..
في عالم كرة القدم، قليل من الاتحادات العربية نجحت في خلق نقلة نوعية بمجرد إعادة توزيع الموارد.
الاتحاد المغربي مثال صارخ: خلال 10 سنوات فقط، ضخ حوالي 1.7 مليار درهم مغربي في البنية التحتية والأندية، فكانت النتيجة الوصول إلى نصف نهائي كأس العالم 2022.
وفي عُمان، لا شك أن نصف مليون هنا، و150 ألفًا هناك، ليست مجرد أرقام… بل هي بداية مدرسة جديدة:
مدرسة تقول بأن الدعم ليس “صدمة كهربائية” قصيرة المدى، بل مسار إصلاحي طويل.
هذه القرارات تشبه تلك اللحظة التي قرر فيها الاتحاد الياباني في التسعينات الانتقال من “كرة الهواة” إلى “مشروع الاحتراف” بخطة تمتد 20 سنة… وكانت النتيجة ما نراه اليوم.
خاتمة..
ما فعله الاتحاد العُماني لكرة القدم اليوم هو أكثر من دعم..إنه إعلان نوايا، وإشارة واضحة على أن القادم لن يشبه الماضي.
قرارات مثل هذه لا تُقاس بالرقم، بل بشكل الطريق الذي تفتحه.
وإذا استمر الاتحاد على النهج ذاته، فإن كرة القدم العُمانية مقبلة على تحول هادئ، تدريجي، لكنه عميق…
تحول يصنع دوريًا أكثر قوة، وأندية أكثر استقرارًا، ومنتخبًا يستحق الطموح.