الدكتور خالد الزدجالي يكتب: عقدة الأجنبي: في الاقتصاد والفنون

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٨/سبتمبر/٢٠٢٥ ١١:٢١ ص
الدكتور خالد الزدجالي يكتب: عقدة الأجنبي: في الاقتصاد والفنون

في عُمان، لم تعد اللغة مجرد وسيلة للتواصل؛ بل تحولت إلى جواز مرور ومفتاح للترقّي الاجتماعي والوظيفي. يكفي أن يتقن شخصٌ الإنجليزية ليقفز على سلّم المناصب، وربما يصبح مديرًا أو خبيرًا أو مستشارًا، بينما ابن البلد يظل ينتظر "الفرصة" التي لا تأتي.

اللغة والنفوذ والكفاءة الوهمية

منذ السبعينيات، عاش المجتمع انبهارًا بكل ما يأتي من الخارج. ترى شخصًا لا يحمل سوى شهادة متواضعة وبعض العبارات الإنجليزية التي التقطها هنا وهناك، فإذا به يُستقبل كمنقذ ويُعيَّن في منصب مرموق. أما العُماني فيُطلب منه أن يرضى بالصفوف الخلفية لأن المدرسة لم تنجح في تعليمه الإنجليزية بمنهج سليم.

ورغم الطفرة التعليمية والتحاق أجيال بجامعات عالمية، ظل معيار الكفاءة محصورًا في "الأجنبي". الأسوأ أن كثيرًا من هؤلاء المفضلين لا يملكون خبرة حقيقية، بل مجرد سير ذاتية مزخرفة ورسائل توصية مبالغ فيها.

وفي الدراما العُمانية، يمكن قراءة الظاهرة بالأرقام: بين 1974 و1990 لم تتجاوز نسبة الأعمال التي أُسندت لمخرجين محليين 5%، بينما ذهبت الغالبية للوافدين. من 1990 حتى 2013 تغيّرت الصورة جزئيًا بفضل تبدّل المسؤولين. لكن بعد 2013 عادت الدائرة إلى نقطة البداية: أعمال قليلة ومخرج أجنبي واحد يتكرر وكأن الزمن توقف عند السبعينيات.

أضخم الأعمال التي علقت بالذاكرة – رحلة سفينة صحار، السندباد، مسلسل أحمد بن ماجد، "عُمان في التاريخ" – كلها أُسندت لغير العُمانيين. حتى مشروع "النوارس والنسور" عن السلطان سعيد بن سلطان، من تأليف أحمد الأزكي، ظل معلقًا أكثر من عشر سنوات بانتظار "المخرج المنقذ". ألم تُنجب عُمان مخرجين جديرين بالثقة؟

أما المشاريع الكبيرة فذهبت لآخرين، مثل فيلم عن زنجبار أخرجه الألماني فريدريك كيلوتش. بل إنني حين قدمت مشروعًا عن "السفينة السلطانة"، تحوّل فجأة إلى دراسة ثم ندوة صُرف عليها 180 ألف ريال. أحد الكتّاب العرب غرّد يومها: "لو وُجّه هذا المبلغ للإنتاج لخرج من أبرز الوثائقيات العربية."

المفارقة أن صاحب الفكرة لم يُدعَ حتى للندوة. ومع ذلك خرج فيلم "السفينة السلطانة" بجهود فردية محدودة وحصد ثلاث جوائز دولية. لكنه لم يُعرض محليًا، إذ لم يُعرض على الرقابة أصلًا منعًا للإحراج. المشهد نفسه تكرر مع فيلم زيانة، آخر فيلم روائي عُماني طويل منذ 2019، الذي أنتجته مع شركة Heera الهندية وبميزانية محدودة، وحاز جائزة أفضل فيلم في مهرجانين دوليين. ومع ذلك لم يُعرض محليًا، وكأن الإنجاز يجب أن يُخفى لا أن يُحتفى به.

حين يصبح الأجنبي خبيرًا

الأمثلة كثيرة. في 2008 تقريبًا، كنت أُدرِّس في كلية محلية كأحد القلائل الحاصلين على الدكتوراه. احتاجت الكلية أساتذة جدد، فتم تعيين هندي يحمل ماجستير عبر الإنترنت. الطلاب اشتكوا من ضعف تدريسه، لكن الإدارة لم تكترث لذلك واعتبرته "كفاءة نادرة"، فيما ينتظر العُمانيون شهورًا وربما سنوات لمعادلة شهاداتهم.

والمشهد نفسه في الإعلام: ممثل عربي شارك في مسلسل واحد ثم عمل موظفًا في وكالة سيارات، أقنعته ممثلة محلية بخوض تجربة التلفزيون. بلا خبرة حقيقية أصبح فجأة "مخرجًا" يسيطر على البرامج الدرامية، بينما الكفاءات العُمانية مهمشة حتى انكشف ضعفه وفساده.

حرب الاستنزاف ضد المواطن

اليوم تتخذ الظاهرة بُعدًا أخطر. في مؤسسة الطيران، لم تتوقف موجات التسريح عند الألف موظف الذين فقدوا وظائفهم خلال عامين، بل تزامنت مع أخبار عن قوائم جديدة تشمل أربعمائة موظف آخر. الأخطر أنها ترافقت مع شائعات عن سحب بعض المنافع من كبار السن بحجة دعم المسرحين. أي منطق يجعل المواطن يدفع الثمن بينما يستمر الأجنبي في التمدد؟

تسريح جماعي يقابله تعيين "خبير أجنبي" براتب مضاعف وصلاحيات واسعة. ما يحدث لم يعد مجرد قصور إداري، بل يقترب من عداء مستتر للمواطن.

صناعة الترفيه على متن الطائرات

في إحدى السنوات تقدمتُ بفكرة للطيران العُماني: إدراج أفلام عربية وأجنبية مختارة إلى جانب الأعمال المحلية ضمن باقة الترفيه. المشروع قوبل بالرفض لأن الأمر مكلف به شركة هندية في دبي تتحكم بالبرامج. وحين حاولنا إدخال أعمالنا، طُلب منا تقديمها عبر تلك الشركة. فعلنا، فتم عرضها، لكن دون أن نحصل على حقوقنا.

والسؤال: حين تركبون الطائرة الوطنية، هل تشاهدون أعمالًا عُمانية كما تفعل شركات الطيران الأخرى؟ الجواب لا. ما يُعرض لا يتعدى فيلمًا ترويجيًا باهتًا، فيما تهيمن الأفلام الهندية والأمريكية القديمة. ياترى، هل الحال مماثل في "طيران السلام"؟

الثقافة والرياضة: وجه آخر للعقدة

حتى دار الأوبرا السلطانية، واجهة عُمان الثقافية، تدار منذ تأسيسها بأيدٍ أجنبية برواتب خيالية. هل يُعقل أن صرحًا بهذا الحجم لا يضم إدارات إبداعية وطنية؟

والأمر ذاته في الرياضة: المدرب الوطني لا يُستدعى إلا كبديل مؤقت، ولا يُمنح وقتًا ليؤسس مشروعًا، بينما الأجنبي يُعطى كامل الثقة والدعم حتى مع نتائج ضعيفة.

مشاهد من الذاكرة

في صيف 1980، كنت في الخامسة عشرة أعمل في شركة كسارات بوادي عدي. كان هناك عامل هندي يفتح خزانات الرمل للشاحنات ويُبلغني بالفاتورة. بعد عشر سنوات التقيته مديرًا لشركة هندسية كبرى يركب سيارة فارهة. صورة تلخص كيف يُفتح الباب للأجنبي بلا شروط بينما يُغلق في وجه ابن البلد.

وفي 2010، كنت في دبي ضمن لجنة تحكيم لمهرجان جولدن جلوب الأمريكية للمسلسلات الأجنبية. دخلت قصرًا فاخرًا لصاحب شركة كان يومًا محاسبًا في مسقط. قال ببساطة: "عملت في شركة صغيرة ثم انتقلت إلى الديوان، وبعدها إلى دبي. اليوم أملك شركات عدة." قصته ليست استثناءً؛ بل انعكاس لبيئة تحتفي بالأجنبي وتُقصي المواطن.

خاتمة: ضرورة صحوة جماعية

ما عرضته ليس مجرد حكايات شخصية بل قراءة لواقع اقتصادي وفني ممتد. استمرار هذه العقدة يعني التفريط في الطاقات الوطنية وتكريس التبعية. المطلوب إعادة تعريف الكفاءة وفق معايير حقيقية: الإنجاز والإبداع والإضافة الملموسة.

المسألة لم تعد مرتبطة باللغة وحدها؛ إنها تتعلق بعقدة الأجنبي في مجملها: في الاقتصاد، والإعلام، والفنون، والرياضة. ما لم ندرك ذلك سنبقى نقدّس المستورد ونُقصي الكفاءات الوطنية، حتى نصبح غرباء في أوطاننا.