الدكتور خالد الزدجالي يكتب: السينما والتراث: ذاكرة لا تمل

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٦/أغسطس/٢٠٢٥ ١١:٠٣ ص
الدكتور خالد الزدجالي يكتب: السينما والتراث: ذاكرة لا تمل

منذ فجر النهضة العُمانية، أُنشئت مؤسسات رسمية تُعنى بالتراث، غير أن إنجازاتها –على الرغم من الجهد المبذول– كثيرًا ما ظلت أسيرة الشكل لا المضمون؛ مقتصرة على ترميم بعض القلاع والحصون، أو إحياء ألعاب الأطفال في المهرجانات الشعبية، وتقديم الرقصات التقليدية ذاتها لعقود طويلة، حتى ملّ الجمهور من تكرارها ورتابتها. هكذا بدا التراث وكأنه حجر صامت، بينما هو في حقيقته روح حية، فإذا قُدّم بأسلوب جاذب ومبدع تحوّل إلى جسر حيّ يربط الأجيال بذاكرتهم، أما إذا ظل محصورًا في صورة الأمس، فسوف يبقى حبيس الماضي، عاجزًا عن الإلهام وعن تقديم عُمان للعالم بصورة معاصرة.

---

السينما وإعادة صياغة التراث

الفن –والسينما بخاصة– يمتلك القدرة على إعادة صياغة التراث وتحويله من فولكلور جامد إلى خطاب بصري نابض. تجارب عالمية وعربية عديدة أثبتت أن الصورة السينمائية قادرة على أن تصنع ذاكرة لا تُمحى.

فيلم الأرض ليوسف شاهين لم يكتفِ بسرد حكاية الفلاحين في مواجهة الإقطاع، بل جعل الأرض نفسها بطلة، رمزًا للكرامة والانتماء. أما المومياء لشادي عبد السلام، فقد تجاوز قصة اكتشاف المومياوات في الأقصر ليقدّم تأملاً بصريًا عميقًا في علاقة المصري بجذوره وحضارته، مستخدمًا التكوينات التشكيلية بوعي جمالي مدهش. وفي الهند، جسّد Mother India الأم باعتبارها الوطن، راسمًا بالألوان والديكور ملاحم النضال والصمود، فصار أسطورة خالدة. وفي الخليج، قدّم بس يا بحر ملحمة عن حياة الغواصين قبل النفط، مستحضرًا صراع الإنسان بين قسوة البحر وأمل الرزق، مؤسسًا بذلك ما يمكن تسميته بـ"سينما اللؤلؤ".

اليونان بدورها قدّمت نموذجًا ملهمًا من خلال زوربا اليوناني، الذي لم يكن مجرد حكاية لرجلين على شاطئ كريت، بل فلسفة بصرية كاملة عن الحياة المتوسطية حيث الفرح والمأساة والرقص والحرية تتداخل جميعها في هوية إنسانية عميقة. وعلى النهج ذاته جاء فيلم عرس الزين المقتبس عن رواية الطيب صالح، ليصوغ لوحة حية من التراث السوداني، مزجت بين الواقعية والرمزية في لغة بصرية آسرة.

أما في عُمان، فقد ظهرت محاولات جادة لتوثيق التراث سينمائيًا؛ أبرزها فيلم البوم، الذي غاص في علاقة البحر بالإنسان العُماني، ليس عبر المشاهد الجمالية وحدها، بل عبر الحكايات وأغاني البحارة وطقوس رحلات الصيد، فكوّن صورة مجتمع ساحلي مكتملة الأبعاد. وجاء فيلم أصيل ليُلفت إلى الصحراء كفضاء للحكاية، مبرزًا علاقة الإنسان بالجمل ورمزية الصبر والتحمّل، وكيف أن هذا الكائن البسيط شكّل جزءًا من وجدان العُماني. ورغم أن هاتين التجربتين لم تكتمل عناصرهما الفنية تمامًا، فإنهما مثلتا محاولة صادقة لإعادة صياغة الماضي بأسلوب بصري معاصر، يمكن أن يشكّل نواة لهوية سينمائية وطنية، لو وُجدت لها الرعاية والدعم.

التجربة اليابانية هنا تقدم درسًا بليغًا: فقد نجح كوروساوا وأوزو في نقل تراث اليابان وفلسفتها إلى العالم عبر السينما، من دون أن يتخلوا عن التفاصيل المحلية الدقيقة؛ من طقوس الشاي إلى إيقاع الحياة الريفية. وعلى النهج العربي، قدّم رضوان الكاشف في عرق البلح رؤية شاعرية للريف المصري، تمزج الحكاية الشعبية بالنقد الاجتماعي، مؤكّدًا أن السينما يمكن أن تُعيد خلق الذاكرة الشعبية لا أن تكررها.

---

من ذاكرة حية إلى فولكلور ميت

في المقابل، لا يزال تقديم التراث في كثير من الفعاليات المحلية محصورًا في الصورة النمطية ذاتها: كما في مهرجان عودة الماضي بصلالة أو القرية التراثية في مهرجان مسقط، حيث تُعرض ألعاب الأطفال والرقصات التقليدية وخبز الرخال أو الرقاق بالطريقة نفسها منذ عقود، ومعها هذه الأيام دنجو ولولاه ومندازي. النتيجة أن العرض يفقد قيمته الجمالية ويتحوّل إلى مشهد نمطي فاقد للإبداع، حتى صار بعض الحضور يسخرون منه ويعتبرونه غير صحي أو غير جذاب.

ورغم أن الوزارة المعنية تنفق مئات الآلاف على المعارض الخارجية في بناء القلاع والحصون والمعمار المؤقت، وتوفد فرق الفنون الشعبية وصانعي الحلوى العمانية، فإن النتيجة النهائية غالبًا ما تكون عودة المنظمين بلا أي أثر يُذكر على السياحة أو الاستثمار. كم معرضًا أُقيم في أوروبا وآسيا؟ وكم سائحًا إسبانيًا أو فرنسيًا أو يابانيًا جاء بعده إلى عمان؟ الصور لم تثبت في ذاكرتهم، وهذا دور السينما، لا المعارض التي تُصرف عليها ملايين الريالات منذ السبعينات.

لقد شاهدنا كيف أثرت المسلسلات التركية أو أفلام مثل سيد الخواتم على السياحة في مواقع تصويرها، وكيف تحولت أماكن التصوير إلى مقاصد عالمية، بينما نحن نكرر مشهد الخيمة والقهوة والحلوى بالطريقة نفسها منذ عقود، بلا تطوير أو رؤية سينمائية. إن العمل البصري الجيد يحفر صورة في الذاكرة، ويدفع المشاهد للبحث عن المكان وزيارته، أما المعارض النمطية فتتلاشى من الذهن فور انتهاء الحدث.

---

السينما كذاكرة لا تمل وخاتمة نقدية

هنا تكمن الفرصة التي تضيّعها مؤسساتنا: السينما قادرة على أن تُعيد للتراث حضوره لا كذكرى متحفية، بل كحياة نابضة تعبر من الشاشة إلى وجدان المتلقي. لقد آن الأوان أن نتحرر من تقديم التراث كعرض فولكلوري متكرر يستهلك المال دون أثر حقيقي، وأن ننظر إليه كمصدر إبداع متجدد. الخسارة ليست في الأموال المهدورة فقط، بل في قصور الرؤية وضياع الفرصة لصناعة صورة ذهنية مؤثرة لعُمان في الذاكرة العالمية. ما نحتاجه ليس المزيد من الخيام والمعارض العابرة، بل مشاريع سينمائية وطنية تحمل تراثنا إلى الشاشة العالمية بلغة عصرية. فالسينما ليست ترفًا، بل أداة دبلوماسية وثقافية واقتصادية، قادرة على جذب السائح والمستثمر معًا. التراث ليس بقايا زمن مضى، بل طاقة متجددة إذا ما قُدّم بروح معاصرة. والسينما وحدها قادرة على جعله حيًا وملهمًا، شرط أن نكسر قيد الفكر التقليدي الجامد ونمنحه لغة بصرية تعكس هويتنا بثقة وقوة. عندها فقط نصنع أعمالاً تحفظ الذاكرة وتُلهم أجيالًا قادمة، كما فعلت الشعوب التي سبقتنا.