من الصفحة إلى الشاشة: الرواية العُمانية كمنجم بصري متجدد للسينما
لطالما كانت الرواية معينًا خصبًا لصناعة السينما، إذ تمنح المخرجين مادّة سردية غنية بالشخصيات، والصراعات، وتفاصيل الزمان والمكان. فمنذ أن تحوّلت روايات "تولستوي" و"ديكنز" إلى أفلام صامتة، مرورًا بروايات "نجيب محفوظ" التي شكّلت العمود الفقري للسينما المصرية الكلاسيكية، يواصل الأدب إلهام الصورة. واليوم، ومع تصاعد الاهتمام العالمي بالأدب العربي، تبرز الرواية العُمانية كأحد أهم الأجناس القابلة للتحوّل إلى أعمال سينمائية ذات طابع إنساني وهوية محلّية.
---
الرواية العُمانية: سردية عميقة ومشهدية مدهشة
لا تكتفي الرواية العُمانية بالتوثيق الاجتماعي أو التاريخي، بل تغوص في أعماق الهوية والتحوّلات الفردية والمجتمعية، عبر شخصيات مركبة وبُنى فنية متقنة. إنها ليست مجرد حكايات مكتوبة، بل منجم بصري حيّ يصلح لسينما نوعية تعبّر عن الخصوصيّة المحليّة بروح إنسانية كونية.
وتتنوع مضامين الرواية العُمانية بين الاجتماعي والتاريخي والتراثي، لتقدم فضاءً بصريًا خصبًا يمكن أن يدمج بين هذه العناصر في رؤية سينمائية متكاملة، تستلهم البيئات والموروث والأسطورة، وتترجمها إلى لغة الشاشة.
---
نماذج قابلة للتحوّل السينمائي
من أبرز النماذج، رواية "سيدات القمر" للروائية "جوخة الحارثي"، الحائزة على جائزة "مان بوكر" العالمية، والتي ترصد تحولات المجتمع العُماني من القرية إلى المدينة من منظور نسوي إنساني. وروايتها "نارنجة" تقدّم بنية شعرية وزمنًا متقاطعًا، يجعلها مادة خصبة للمونتاج السينمائي.
أما "زهران القاسمي" في رواية "تغريبة القافر"، فيرسم سردًا ملحميًا عن قسوة الطبيعة والعزلة، يُتيح تقديم عمل بصري فلسفي. وتُفتح رواياته الأخرى مثل "جوع العسل" و"القنّاص" على تأملات إنسانية قابلة للتجسيد البصري العميق.
وفي الرواية التاريخية، تبرز "بشرى خلفان" بروايتيها "دلشاد" و"الباغ"، حيث تستحضران ملامح مسقط القديمة، وتعالجان قضايا المهمّشين والعبودية، ما يفتح الباب أمام إعادة تشكيل بيئة بصرية غنية قائمة على الأسواق والبيوت والعلاقات الطبقية.
أما البحر، فينبض في روايتي "محمد عيد العريمي": "ذاكرة البحر" و"مرسى الشوق"، اللتين توثقان التاريخ الملاحي العُماني بروح سردية يمكن أن تتحوّل إلى أفلام عن الإنسان والبحر والهوية.
كما نجد في رواية "رجال من جبال الحجر" لـ"سعود المظفّر" فضاءً دراميًا للسينما الجبلية، في حين تقدّم "هدى حمد" في رواياتها مثل "الأشياء ليست في أماكنها" و"التي تعد السلالم" سردًا نفسيًا يفتح للسينما الداخلية أبوابًا من التوتر والتأمل. أما "يونس الأخزمي"، ففي روايتيه "كهف آدم" و"غبّة حشيش"، يقدّم مزيجًا من الفانتازيا والأسطورة، يجعلها أرضًا خصبة لسينما تتداخل فيها الواقعية والسحر.
---
بين الاجتماعي والتاريخي: تكامل لا تصنيف
لا يمكن حصر الرواية العُمانية ضمن تصنيفات جامدة كـ"اجتماعية" أو "تاريخية" أو "تراثية". فغالبًا ما تتقاطع هذه الأبعاد داخل النص الواحد. رواية تتناول المجتمع قد تنطوي على بُعد أسطوري، وأخرى تنبش التاريخ لتحاكي أزمة معاصرة. لذا فإن الرؤية الإخراجية مطالبة بكسر هذه القوالب، والتعامل مع الرواية ككيان متكامل متعدد الأوجه.
هذا التداخل ينسجم مع تحولات النقد السينمائي العالمي، الذي لم يعد يفصل بين الأجناس، بل يعتبر تداخلها عنصرًا من عناصر ثراء العمل الفني، لا تعقيدًا له.
---
من التحدي إلى الإمكانية
رغم ما تقدّمه الرواية العُمانية من فرص جمالية ودرامية، إلا أن تحويلها إلى أفلام يواجه تحديات، خاصة في الأعمال التاريخية أو البحرية، التي تتطلب مواقع تصوير خاصة، وأزياء، وديكورات، وتقنيات متقدّمة. كما أن تحويل النص الأدبي إلى رؤية بصرية متكاملة يتطلب مهارات متخصصة في كتابة السيناريو وتقطيع المشاهد.
لكن في المقابل، فإن الربح الثقافي والمعرفي كبير، إذ تتحول الرواية إلى عنصر فاعل في ترسيخ الهوية البصرية، وتعزيز السياحة الثقافية، وإعادة قراءة التاريخ بعيون معاصرة.
وتتمثّل فرصة النجاح في دعم مؤسسات الثقافة والإعلام لهذا التحول، من خلال منح الإنتاج، وورش التدريب، وبرامج التعاون بين الكُتّاب والمخرجين.
أما الروايات الاجتماعية والنفسية، فهي أقل تكلفة، لكنها أكثر قربًا من الجمهور، لما تحمله من قضايا الاغتراب، وصراع القيم، والحرية الفردية، بطرح سردي ملتصق بالواقع.
---
نحو تفعيل بصري فعّال
لكي تنتقل الرواية العُمانية من الصفحة إلى الشاشة، لا بد من تأسيس ورش عمل مشتركة بين الروائيين وكتّاب السيناريو والمخرجين، لتحويل النصوص الأدبية إلى معالجات درامية "Treatments" و"Loglines"، تُشكّل أساسًا لنصوص سينمائية قابلة للتنفيذ.
ويمكن أن تكون هذه الورش برعاية مؤسسات ثقافية وأكاديمية، وتسهم في إنتاج أفلام تجريبية مستوحاة من الرواية العُمانية، كتجارب أولى نحو تأسيس مدرسة بصرية ذات خصوصية.
تجربة "نجيب محفوظ" جديرة بالتأمل هنا. فقد خاض مجال السينما من باب السيناريو قبل أن تُقتبس رواياته، وتعاون مع "صلاح أبو سيف" في أفلام مثل "لك يوم يا ظالم" و"بين السماء والأرض". هذا التفاعل مع السينما جعله يكتب رواياته لاحقًا بذهنية بصرية، ما سهّل تحويلها إلى أفلام ناجحة مثل "الكرنك" و"ثرثرة فوق النيل".
وقد صرّح محفوظ لاحقًا أن السينما علمته تقنيات الإيقاع والمشهدية، ما جعله أكثر وعيًا بالبناء الدرامي أثناء الكتابة الروائية.
---
خاتمة: من الرواية إلى الرؤية
أمام الرواية العُمانية اليوم فرصة ذهبية للتحوّل إلى سينما تنبض بالهوية، وتخاطب الإنسان العربي والعالمي معًا. وإذا تحققت الشراكات بين الكُتّاب والمخرجين والمؤسسات، فإن السينما العُمانية ستشهد انطلاقة مختلفة، جذرها في الأدب، وأفقها في الصورة.
وكما يلتقط البحر صورته في عين العابر، تلتقط السينما جوهر الرواية في عدسة الزمن... ومن السطر تبدأ الحكاية، ومن الشاشة تتفتح الرؤية.