يقال إن مفتاح النجاح يكمن في الحضور في الوقت والمكان المناسبين، تماماً مثل اقتناص فرصة حدوث المد العالي. لكن المكان والتوقيت وحدهما لا يضمنان النجاح؛ بل ينشئان الظروف المناسبة لتحقيق الإنجازات.
يعدّ ذلك أحد الدروس المهمة المستقاة من مسيرتي في السلك العسكري ثم قطاع الاستثمار. وفي ظل التقلبات الحالية ضمن المشهد التجاري العالمي، ينطبق ذلك الدرس على المسار الاقتصادي لمنطقة الخليج العربي، فالموقع الجغرافي للمنطقة ليس وحده ما يجعلها مركزاً تجارياً ناشئاً؛ بل كل ما بناه مجلس التعاون الخليجي على مدار عقود، والذي يتيح لها اقتناص الفرص التي ستتولّد حتماً عن إعادة الهيكلة الحالية للتجارة العالمية . ويشمل ذلك البنية التحتية بطبيعة الحال.
ينعم مجلس التعاون الخليجي بإحدى أقوى شبكات الموانئ البحرية حول العالم. يشهد البحر الأحمر حوالي 12 بالمئة من التجارة العالمية، وحوالي 30 بالمئة من حركة الحاويات العالمية ، بينما يتم تصدير 30 بالمئة من النفط المتداول بحرياً حول العالم و20 بالمئة من إجمالي الغاز الطبيعي المسال عبر مضيق هرمز . تشكّل تلك الموانئ محطات متعددة الأغراض، حيث تتولى شحن وتفريغ حاويات وحمولات من كل أنحاء العالم. لكنها أيضاً تؤدي دوراً مهماً كبوابات لمجموعة من الاقتصادات التي يتوقع أن يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي نحو 3 تريليون دولار بحلول عام 2030.
يمثل ميناء الدقم على الساحل الجنوبي الشرقي لعُمان أحد الجسور المؤدية لتلك الفرصة، بحكم موقعه المفتوح على آسيا وأفريقيا واتصاله المباشر بالمحيط الهندي. يعتبر ميناء الدقم محوراً أساسياً ضمن استراتيجية عُمان الوطنية اللوجستية 2040، التي ترمي إلى تعزيز مكانة السلطنة كمركز لوجستي عالمي بحلول عام 2040 وجعل ذلك القطاع ثاني أكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي. استقطبت الاستراتيجية استثمارات إقليمية ودولية هائلة إلى القطاع اللوجستي في عُمان، وبلغت قيمتها حوالي 6.5 مليار دولار منذ عام 2023.
تشكّل الطاقة المتجددة إحدى الأسس الداعمة لتلك الاستثمارات، حيث تبرز أمام موانئ المنطقة فرصاً هائلة بدءاً من إزالة الكربون من الصناعة ووصولاً إلى تحول الطاقة العالمي. يخضع ميناء الدقم حالياً لأعمال توسعة تشمل بناء رصيف جديد مخصص لخدمة منشأة صناعية منخفضة الانبعاثات الكربونية تزوّد قطاع الفولاذ الأخضر بالمواد اللازمة. ويتم إنتاج ما يصل إلى 200 ألف طن من الهيدروجين الأخضر سنوياً في الدقم باستخدام 5 غيغاواط من طاقة الرياح والطاقة الشمسية؛ مع خطة طموحة لرفع الإنتاج تدريجياً ليصل إلى مليون طن بحلول عام 2030، في خطوة تهدف إلى ترسيخ مكانة الدقم كمركز إقليمي للطاقة المتجددة.
يقع ميناء الدقم عند نقطة التقاء الاقتصادات الحالية والمقبلة لدول مجلس التعاون الخليجي، ما يجعله وجهة طبيعية لرؤوس الأموال، وهو في الوقت نفسه ثمرة من ثمار رؤية عمان 2040 وأحد محركاتها المستقبلية، ويُعد استثماراً بعيد المدى من شأنه أن يعيد تشكيل ملامح الاقتصاد الوطني ويترك أثراً يمتد لأجيال قادمة. كما تتجاوز أهدافه حدود العوائد المالية المباشرة، ليُسهم في إحداث أثر مستدام يعود بالنفع على الانسان العماني وبيئة الأعمال في البلاد.
تجسّد فرصة الاستثمار المتاحة في ميناء الدقم نموذجاً يُرجّح ازدياد الأمثلة المشابهة له خلال السنوات الخمسة المقبلة في عُمان، وفي المنطقة ككل. فدول الخليج تتجه نحو تبنّي موجة جديدة من مشاريع البنية التحتية الضخمة، في إطار تثبيت مسارات النمو الاقتصادي التي بدأت بالفعل. ومع تسارع برامج التحول الوطني، ستلعب هذه المشاريع دوراً محورياً في ترسيخ مكانة الخليج كمركز تجاري مؤثر، ودفع غرب آسيا إلى مقدمة المشهد الاقتصادي العالمي.
الفرص المتاحة واضحة، وتمضي على نهج استثماري مدروس لطالما أتقنته إنفستكورب عبر عقود من الخبرة في مشاريع البنية التحتية والعقارات.
تدير اليوم إنفستكورب محفظة أصول تصل قيمتها الإجمالية 16.7 مليار دولار. يقع جزء كبير من تلك الأصول في أسواق صناعية متقدمة داخل الولايات المتحدة، وتضم بعضاً من أبرز المشاريع في البلاد حالياً، من بينها مشروع المبنى السادس الجديد في مطار جون إف. كينيدي الدولي، الذي تصل تكلفته إلى 4.2 مليار دولار. ومن بين هذه الأصول برزت "ريسا باور" كأكثر الاستثمارات نجاحاً خلال العقد الماضي، حيث حققت نمواً في الإيرادات تجاوز أربعة أضعاف خلال فترة ملكية إنفستكورب لها.
الأهم من ذلك أن النماذج الاستثمارية التي تطورت في الولايات المتحدة – الدولة التي أثبتت قدرتها على الصمود عبر مختلف الدورات الاقتصادية – أصبحت اليوم ملائمة أكثر من أي وقت مضى لواقع دول مجلس التعاون الخليجي. فمع توافر عوامل داعمة على المستوى الاقتصادي الكلّي، إلى جانب التحوّل العالمي في قطاع الطاقة، باتت استثمارات البنية التحتية في المنطقة أكثر قابلية للتنفيذ وتحقيق الجدوى وهذا هو الوقت المناسب لتطبيق تلك النماذج في أسواق عُمان وسائر دول الخليج التي تستعد للدخول في مرحلة اقتصادية جديدة محمّلة بفرص واعدة وتحولات استراتيجية.
في المستقبل القريب، ستصبح المراكز اللوجستية الخليجية وجهات رئيسية لرؤوس الأموال العالمية الذكية، إذ تُعد هذه الأصول في موقعها وزمنها المثاليين، فمن جهة يلتقي الماضي البحري العريق للمنطقة بمستقبلها الواعد في الريادة التكنولوجية، ومن جهة أخرى تبرز هذه الأصول في لحظة محورية يشهد فيها العالم إعادة تشكيل عميقة لسلاسل التوريد وتحولات بارزة في موازين القوى بين الشرق والغرب. وبطبيعة الحال فإن وجودها بين أسواق ناشئة وسريعة النمو في قارات متعددة يمنحها موضعاً مثالياً في قلب الاقتصاد العالمي.
المد يرتفع، وحان وقت اقتناص فرصه.