
لم يكن إعلان العودة إلى التفاوض بين الولايات المتحدة وإيران حول برنامجها النووي مفاجئًا، بقدر ما كانت التحديات المحيطة به أكثر تعقيدًا مما كانت عليه في أي وقت مضى. فبينما يبرز البرنامج النووي الإيراني كأبرز بنود هذا الحوار، إلا أن واشنطن لطالما سعت إلى توسيع أجندة التفاوض لتشمل ما تسميه بـ"سياسات إيران التوسعية" في المنطقة، وتحديدًا دعمها لما تعتبره أذرعًا عسكرية في دول الجوار، إلى جانب ملف التسلّح الصاروخي، والتعامل مع الأقليات، وحرية ممارسة الأديان داخل إيران.
في النسخة السابقة من المفاوضات، والتي كانت تسير بإيجابية لافتة عبر القناة العمانية، بدا أن الجانبين قد اقتربا من التوصل إلى تفاهم يُفضي إلى توقيع الاتفاق في مسقط، مع قبول إيراني مشروط بتقليص نسبة تخصيب اليورانيوم من أكثر من 60% إلى أقل من 4%، في مقابل تخفيف العقوبات، وهو ما رأت فيه طهران تنازلًا مدروسًا يخدم مصالحها الاقتصادية مع الحفاظ على مشروعها السلمي المعلن.
لكن ما حدث لاحقًا أعاد الأمور إلى نقطة الصفر. فقد جاءت الحرب الإسرائيلية على إيران لتحرق ما تبقّى من أجواء الثقة. دخل نتنياهو الحرب بملف تفاوضي في يد، وصاروخ في اليد الأخرى. فحاول أن يفرض واقعًا جديدًا يعيد رسم قواعد الاشتباك، على أمل أن تنجح العمليات العسكرية في إسقاط النظام الإيراني أو إخضاعها لبنود التفاوض الأميركي-الإسرائيلي المشتركة.
غير أن الحسابات على الأرض لم تطابق الطموحات؛ الحرب انتهت دون تحقيق أهدافها المعلنة، بل منحت إيران – بشكل غير مباشر – ورقة قوة جديدة، إذ خرجت منها دون أن تُكسر.
وهنا تبدأ مرحلة جديدة من التفاوض، لا تشبه ما قبلها، وتفرض قواعد جديدة للعبة:
أولًا: إيران في موقع أقوى
بعد الحرب، لن تعود طهران إلى طاولة التفاوض بنفس الشروط. ما كانت ترفض مناقشته سابقًا (الصواريخ – الأذرع الإقليمية – الوضع الداخلي)، ستعتبره اليوم خارج أي نقاش. وستركز على المسألة النووية باعتبارها "الملف الشرعي الوحيد" للتفاوض، ملوّحة بأنها قدمت ما يكفي من تنازلات فنية في التخصيب، ولن تذهب أبعد من ذلك.
ثانيًا: واشنطن في موقع المراجع للحسابات
الولايات المتحدة تعلم أن فشل الحرب يعني فشل الرهان الإسرائيلي، وأن التلويح بالخيار العسكري لم يعد ورقة ضغط حقيقية، بل أصبح عبئًا سياسيًا. وبالتالي، فإن العودة للتفاوض تحتاج إلى خطاب أكثر مرونة، ولو من دون اعتراف رسمي بذلك.
ثالثًا: مسقط تعود إلى الواجهة... بصعوبة أكبر
هنا يظهر الدور العُماني مجددًا، لكن في ظرف أكثر تعقيدًا. لم تعد مسقط فقط وسيطًا فاعلًا، بل مطالبة اليوم بإعادة خلق مناخ ثقة شبه مفقود. سيتطلب ذلك من القيادة العُمانية قراءة دقيقة لتحولات الطرفين، وتقديم مقاربة تفاوضية جديدة، قد تشمل:
جدولًا زمنيًا تدريجيًا يربط بين الملف النووي وملفات أمنية لاحقة، دون دمجها دفعة واحدة.
ضمانات متبادلة لعدم التصعيد في ساحات الإقليم (لبنان، اليمن، العراق).
إشراك أطراف إقليمية في عملية الضمان مقبولة لدى الجانبين.
إن ما بعد الحرب ليس كما قبلها. الميدان أفرز واقعًا سياسيًا جديدًا، وحرّك موازين النفوذ بهدوء مدوٍّ. وإذا كانت مسقط تتهيأ مجددًا لاحتضان جولة تفاوض جديدة، فإنّ على العالم أن يُنصت جيّدًا لما تقوله عُمان، لا بما تفرضه البنادق. فالتاريخ يقول إن الحروب لا تُنتج حلولًا... ولكن التفاهم قد يمنح فرصة جديدة للحياة.