خالد عرابي يكتب: علموا أولادكم أن ما تفعلوه في الخفاء لابد وأن يظهر يوما ما

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠٩/أكتوبر/٢٠٢٤ ١٨:٣٦ م
خالد عرابي يكتب: علموا أولادكم أن ما تفعلوه في الخفاء لابد وأن يظهر يوما ما

وقف أبني آدم في الساعة السادسة و 36 دقيقة صباحا، في صالة المعيشة قبل أن يغادر إلى المدرسة مترددا، وهذا ليس من شيمه ولا طبعه فلقد عهدته شامخا كالجبال جلمود كالصخر، فاستشعرت أنه يريد أن يقول شيئا: فقلت ربما يحتاج مزيدا من المصروف اليومي وكنت قد أعطيته أياه، أو يحتاج إلى مزيد من المال لأمر آخر، فهذا هو الأمر الذي ربما يجعله يتردد أمامي لأنه لا يحب الطلب، وإن أراد أن يطلب شيئا ماديا صغيرا أو كبيرا فهو لا يطلبه كطلب مادي، وإنما يعرض على أن يؤدي لي عملا ما كأن يقول: " ما رأيك أن أقوم لك ببعض أعمال المونتاج أو معالجة بعض الصور، بعض الأعمال التقنية في الكمبيوتر المحمول أو في هاتفي هواتفي أو يحفظ مزيدا من الصور القرآنية وهكذا.. فقلت: "ها .. آدم قولي عايز أيه .. أنا عارفك مش بتتردد أبدا .. عايز فلوس ".. فضحك وقال لي جملته المشهورة لي: " يا أبني .. " على اعتبار أنه صديقي وليس أبني وهذا منطلق تعامله معي ، فهو دائما يحدثني كذلك، ومن منطلق أنه يعاملني على أنني صديقه وفي ذات عمره ولا يتعامل معي كأب فقط، وأكمل قائلا "يا أبني .. ما أنت أديتني المصروف" قلت له: " مانا عارف .. أمال إيه تاني؟!" فأجابني : " عايز أقول لك حاجة". قلت له اتفضل قول، ولكن بشرط.. قال لي ماشي: قلت له تجيبني وبسرعة خلال ثانيتين أي بمجرد أن انتهي من كلامي تتحدث مباشرة وتشرح لي الأمر وبسرعة – وهذا الأمر لطالما أطبقه مع أولادي لأعلمهم عدم التردد وسرعة إتخاذ القرار، فدخل آدم في الموضوع مباشرة، وقال وبلا أدنى تردد: " دادي أنا آسف"، أمس بالليل خبيت عليك شيء ولم أخبرك أنني حصلت على نتيجة "الاسيمنت" أو الاختبار الشهري وأنني حصلت على تسعة من عشرة، ولذا لم أخبرك، ولكنني الآن لم أستطيع أن أذهب إلى المدرسة قبل أن أخبرك لأنني لا أريد أن أذهب وأكون قد أخفيت عنك ذلك - وذلك لأنني متعود منه أن يحصل على الدرجة النهائية-.

ضحكت معه وأخذته بالحضن ثم ضربنا كفينا كعادتنا معا، وقلت له: "شكرا آدم حبيبي لأنك ما بتخبيش عني حاجة، وأنك ما قدرتش تخبي عني أكتر من يوم، وأنك ما قبلتش تروح المدرسة قبل ما تبلغني عشان ما تخبيش يوم تاني" .. ضحك وقال لي: "مش أنت اللي علمتني كدا"، قلت له مازحا أزاي: فقال لي فاكر اللوحة اللي كنت معلقها في المطبخ بتاعت "دارمان" لم كنا في بيتنا القديم (يقصد السكن السابق) أمام مسجد سعيد بن تيمور في الخوير، ضحكت ثانية وقلت له: " أنت لسه فاكرها."، ضحك وقال: "طبعا يا أبني".

وهنا ولـ "لوحة دارمان" هذه قصة، وهي أنني كنت كلما رأيت أبناي عمرو وآدم يشاهدان فيديوهات "دارمان" الأمريكية الشهيرة، وهي دائما ما تركز على بعض العبارات أو المباديء القيمية، أجلس معهما لنشاهد سويا بعضا منها، ثم نتسابق حول ما هي العبارة أو الجملة التي كانت أكثر تأثيرا، أو كنا أكثر أعجانا بها، ثم نتسابق على كتابتها كلوحة بخط جميل، ومن يفوز منا نعلق لوحته في مكان بارز في واحدة من غرف البيت لتعد بمثابة حكمة لنا نرددها ونذكر بعضنا بعضا بها، وكان من بين تلك العبارات اللوحات لوحة فزت بها أنا وهي تحمل مقولة لدارمن تقول: What,s happen in the dark always comes on the sun

"أي ما نفعله في الخفاء يظهر في الضوء" وقد آثرت أن أعلقها في المطبخ لأنه كلما دخله أحد يتذكرها.. وهذه هي اللوحة التي تذكرها آدم وعلمته مبدأ ألا يخفي شيئا عني أو عن أحد.

هذا الموقف ذكرني بأحد مقاطع الفيديو التي شاهدتها منذ فترة بعيدة، وهو مقطع للدكتور وسيم السيسي - هو أستاذ دكتور في الطب وعالم مصري شهير وكاتب رائع في الإنسانيات والتاريخ والعلوم والاجتماعيات وغيرها، حيث سألته إحدى الإعلاميات المصريات قائلة: " الناس بتحبك ليه" فقال لها سأرد عليكي بقصة لطيفة، وأكمل قائلا: " كنت باشتغل في كامبريدج في مستشفى أسمها أدنج بروكس" وكان معنا دكتور هندي أسمه باتيل، وكان زميل لي، وكان يحظى بحب منقطع النظير من الجميع لدرجة أنني أستطيع أن أقول لكي: حتى جدران المستشفى تحبه، وفي يوم من ذات الأيام قلت له دكتور باتيل أطلب منك خدمة وهي أنك تتولى "شفتي" أي مناوبتي لعطلة نهاية الأسبوع وهي تعني هناك نصف يوم الجمعة مع يومي السبت والأحد، لأنني سأذهب إلى لندن، و وسأتولى في الأسبوع المقبل مناوبتك فقال لي: أذهب، ولا يهمك، سأتولى بدلا منكمناوبة عطلة هذا الأسبوع، ولكن سأتولى مناوبة عطلة نهاية الأسبوع المقبل أيضا لأنها لي، فقلت له أشكرك على القبول وسأكتب لك شيك بالمبلغ، لأن قيمة مناوبة عطلة نهاية الأسبوع في ذاك الوقت كانت تساوي 200 جنيه أسترليني، ولأنني فهمت أنه يريد مقابل هذه المناوبة مادبا لأنه سيتولى المناوبتين، فقال لي: لا.. لا أريد أي مقابل لأنني لست مرتبط أو مشغول بشيء وأشكرك أنك أعطيتني فرصة أن أشغل وقتي في عطلة هذا الأسبوع، بل و رفض تماما أن يأخذ هذا المقابل، وهنا وجدتني أسأله نفس سؤالك لي الآن: "هو أنت الناس بتحبك ليه"؟

فأجابني د. باتيل أيضا بقصة مثل التي حكيتها لكي الآن، وقال: حينما كنت صغيرا أتذكر ربما في سن الرابعة أو الخامسة أخذتني والدتي إلى جبل بعيد من المكان الذي نعيش فيه في الهند، ووقفت بي هناك وقالت لي قول بصوت عالي love You

أنا بحبك، فبعد ثواني قليلة سمعت صوت قادم من الجبل يردد I love you أنا أحبك وبالطبع هو صدى الصوت .. سكتت أمي قليلا وقالت: قول بصوت عالي : I heat you بمعنى أنا أكرهك، فقلت ونفس الأمر بعد ثواني قليلة سمعت صدى الصوت يردد I heat you فطبعا في أيامها كطفل لم أكن أدرك أن هذا الصوت القادم أو الذي يرد علي هو صدى الصوت، فسألت أمي من الذي يرد علي: فقالت لي "هؤلاء هم الناس .. و ما تقوله لهم يرد عليك، فإذا أحببتهم أحبوك، وإن كرهتهم كرهوك، ولكن عليك أن تبدأ بالحب حتى تسمع حب الناس، ولكن من غير ما تبدأ بالحب أو تقدمه لهم لن تجده منهم".

وأكمل الدكتوروسيم السيسي مع محاورته قائلا: للعلم فإن الناس تحس وتشعر بذلك، فإن العاملين فيما يسمى بلغة الجسد يقولون أن الرسالة يمكن تقسيمها إلى 100 نقطة، 7 نقاط منها للغة المنطوقة و 38 نقطة هي موسيقى الصوت التي تظهر إذا ما كان المتحدث صادق في مشاعرأم لا، أما الـ 55 نقطة الباقية فهي تعبيرات الوجه أثناء القول، وبالتالي فإن سبع نقاط منطوقة و 93 نقطة غير منطوقة، والصدق هو توافق النقاط السبع مع الـ 93 نقطة، والكذب هو عدم توافقها. فالناس تحس الـ 93 ولذا فعلى كل أنسان لا يقول شيء إلا إذا كان يحسه ومن قلبه حتى يصل للآخرين.

وهنا أردت أن أؤكد على أن ما نزرعه في ابناءنا منذ الصغر من قيم الصدق والأمانة والحب والخير والجمال ترسم في قلوبهم وترسخ في وجدانهم ويتحفظها عقولهم وتلهج بها لا إراديا ألسنتهم .. أبقوا مع أولادكم أوقات أطول، إلعبوا وأمرحو وتسابقوا وأرسموا وغنوا معهم، خاصة في الصغر، فهذا ما ستجدوه منهم في كبركم، أعطوهم من أوقاتكم حتى لا يأتي وقت تجدوه قد مر الوقت وكبرتم وكبروا ولكن لم يعد لديهم الوقت ليكونوا معكم لأنهم شغلوا بأشياء أخرى في ظل غيابكم، ولربما أنشغلوا بحياتهم وعندها لا تلومونهم لأنها ستكون بضاعتكم ردت إليكم .. دمتم بحب ودام أولادكم بكل الخير والمحبة بقربكم وجعلنا ألله وأياكم من القريبين لابنائهم.