نحن عرب العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين نعيش أسوأ فترات التاريخ، حيث نرى كيف تمكن كيان الاحتلال بمستوطنيه السبعة ملايين من إذلالنا وإهانتنا رغم عددنا أكثر من 400 مليون. ورغم اغتصابه لفلسطين الحبيبة، أنه منذ 7 أكتوبر 2023 يواصل ارتكاب أبشع جرائم الإبادة الجماعية وتدمير البنية التحتية في غزة فوق رؤوس سكانها، وإخواننا المظلومين هناك محرومون من الطعام والماء، ونتيجة لذلك يموت العديد من الأطفال من الجوع، بينما تتصرف حكومات 22 دولة عربية وكأن الأمر لا يعنيها وأن غزة وشعبها ليسوا جزءاً من الأمة العربية؟ أريد في هذا المقال أن أسلط الضوء على انطباعات وردود أفعال من سيخلفنا بعد مائة عام من اليوم تجاه هذا الموقف المخزي لحكوماتنا.
أذكر إحصائيات القتل والدمار الذي ارتكبها كيان الاحتلال منذ حربه على غزة في 7 أكتوبر 2023 وحتى منتصف ديسمبر 2023، أي خلال تسعة أسابيع فقط: وقد قتل أكثر من 31 ألف فلسطيني في غزة منذ بدء العملية الإسرائيلية، ومن بينهم أكثر من 13 ألف طفل و9 آلاف امرأة بالإضافة إلى 7 الآف شخص آخرين في عداد المفقودين ويفترض أنهم لقوا حتفهم تحت انقاض المباني المدمرة. وبحلول منتصف ديسمبر كانت إسرائيل قد اسقطت 29 ألف قذيفة على غزة، فدمرت أو ألحقت أضراراً بـ70 بالمائة من المنازل، ودمرت مئات المعالم الثقافية، والحقت أضراراً بعشرات المقابر. ويقول الخبراء أن حجم ووتيرة الدمار في غزة هو من بين أشد الدمار في التاريخ الحديث.
واليوم، بعد ثمانية أشهر من الإحصائيات التي قدمتها، أصبح الوضع مختلفاً تماماً. بلغ عدد الشهداء 40 ألفا شهيد و90 ألفا و110 مصابين، معظمهم أطفال ونساء نتيجة العدوان الغاشم على غزة حتى يوم أمس 18 أغسطس 2024، ومن المرجح أن يرتفع عدد الشهداء والمصابين كلما طال أمد العدوان. وقد خلف العدوان دمار هائل في البنية التحتية وأنه منذ 7 أكتوبر 2023 يستخدم العدو سلاح التجويع لتحقيق أرقام قياسية وجرائم الإبادة الجماعية بالقصف والتجويع ومنع العلاج.
ويسعدني أن أقتبس هنا إحصائيات الضحايا والدمار والحصار من إحدى الصحف الأمريكية. وكعادة كل الصحف الأمريكية دون استثناء متضامنة وداعمة لكل ما يفعله كيان الاحتلال بحق غزة، بما في ذلك الإبادة الجماعية بحق شعبها المظلوم. لكن مجلة "فورين أفيرز" سلكت طريقاً غير عادي هذه المرة وكتبت الحقائق المرة في عددها بتاريخ 23 يونيو 2024 حيث ذكرت ما يلي:
"إنه بعد تسعة أشهر من العمليات القتالية الإسرائيلية في قطاع غزة، لم تهزم حماس وليست قريبة من ذلك أيضًا. وأضافت المجلة أن إسرائيل غزت قطاع غزة بنحو 80 ألف جندي وهجرت 80% من السكان قسراً، وقتلت أكثر من 37 ألف فلسطيني، واسقطت ما لا يقل عن 70 ألف طن من القنابل على القطاع، والحقت أضرارًا بأكثر من نصف مبانيه، وقيدت وصول المنطقة إلى المياه والغذاء والكهرباء، ما ترك السكان بالكامل على حافة المجاعة".
وتستمر إسرائيل في معاركها البرية والبحرية والجوية لأن أمريكا والدول الغربية لا تريد لهذه الحرب أن تتوقف لأن لديها أجندة مخفية ومظلمة، يريدون لإسرائيل أن تحققها وهذا ما طلب الحكام العرب المعترفون بدولة إسرائيل من الرئيس الأمريكي جو بايدن إنجازه، وهو تحديداً إنهاء كافة حركات المقاومة في المنطقة العربية حتى لو كان ذلك يعني مقتل مئات الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين. وهؤلاء الحكام لا يستطيعون التسامح مع وجود المقاومة في المنطقة لأنهم يعلمون أن شعبهم مع المقاومة ومع كل حركات المقاومة المسلحة لاستعادة فلسطين، بينما هم يعترفون بوجود إسرائيل وأن شعبها من أهل الكتاب! وتستمر الحرب والشياطين تدعم الكيان الصهيوني بالسلاح والعتاد والمال لقتل الشعب الفلسطيني المظلوم المحروم من أبسط حقوقه لدرجة أنه لا يجد طعاماً ولا ماء ولا حتى كفن ولا أرضاً يدفن فيها موتاه. ويعيش أهل قطاع غزة بلا مياه شرب نظيفة ولا كهرباء ولا علاج لأن إسرائيل دمرت كل المستشفيات، منذ بداية عدوانها.
السؤال الذي سيطرحه الشعب العربي بعد قرن من الآن، في أغسطس 3024 هو: أين كان حكام العرب، وجيوشهم الجرارة، ونفطهم، وغازهم، وملياراتهم، واستثماراتهم، وأخيرا جامعة الدول العربية التي من المفترض أن توحد اعضائها وتدافع عن قضاياهم المصيرية؟ ألم تكن غزة في عام 2024 جزءاً من العالم العربي؟ ألم ير الحكام العرب ما يحدث للفلسطينيين الأبرياء في غزة والضفة الغربية؟ إلى الحد الذي لم تتحمل فيه دولة غير عربية أوحتى غير إسلامية مثل جنوب أفريقيا جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين ورفعت دعوى إبادة جماعية ضد إسرائيل أمام المحكمة الدولية؟ ثم يسأل عربي القرن الثاني والعشرين: ألم يكن للحكام العرب ضمير؟ وكما يعلم الجميع فإن أهل غزة عرب ويتكلمون نفس لغتهم ويتبعون نفس دينهم، فهل يعقل أن يصمتوا ويغمضوا أعينهم وآذانهم عن صراخ أطفال غزة وكأن الأمر لا يعنيهم؟ ويضيف العربي القرن الثاني والعشرين. لا شك أن قضية غزة مثلت كارثة كبرى للحكام العرب في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. وبصمتهم أصبحوا جزءاً من حرب الإبادة على غزة في نظر الشعوب العربية. ويتابع العربي حديثه قائلاً: وكما صعقت الشعوب العربية في القرن الحادي والعشرين من حالها وعانت مما شاهدته من قتل وتدمير للشعب الفلسطيني العربي في غزة، فإننا نحن عرب القرن الثاني والعشرين نتألم ونحزن من أجل غزة، رغم أن كل المجازر حدثت قبل مائة عام. ويتساءل هل لم يشعر هؤلاء الحكام بالثورة والاضطراب الذي كان يحدث في ضمير شعوبهم؟ أم أن الحكام لم يبالوا وعلموا أن أمريكا وحدها هي القادرة على إيذائهم وليس شعوبهم لأن الشعوب مسيطر عليها جيداً ولا تستطيع أن تسبب لهم أي آذى. وهذا صحيح، وحتى الشعوب لم تكن تريد إيذاء حكامها. ولكن المؤكد أن الشعوب العربية كانت تريد أن ترى على الأقل بعض الإجراءات من جانب الحكام للضغط على حليفتهم وضامن عروشهم أمريكا لوقف المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة. وهكذا سوف تتخيل الشعوب العربية المتحررة من كل سيطرة أجنبية في القرن القادم 3024م الظروف التي كانت سائدة في غزة وموقف حكام البلاد العربية.
أقول بكل تواضع وتقدير لإخواننا العرب في القرن الثاني والعشرين: أولاً: أشكركم على مشاعركم الطيبة وغضبكم العميق وتفهمكم لنا نحن الشعوب العربية المظلومة الذين عجزوا عن تقديم أي مساعدة تذكر لإخواننا في غزة. ثانياً: نحن الشعوب العربية في القرن الحادي والعشرين تركنا حكامنا وجامعتنا العربية جانباً، وكنا نعلم جيداً أنهم لا ينفعون شيئاً. ولكن رغم كل الدمار والتضحيات التي حدثت في غزة المنكوبة، فإن هناك إيجابيات كثيرة تحققت بفضل صمود المقاومة. لقد نجحت كافة حركات المقاومة الفلسطينية وداعميها من محور المقاومة خلال الأشهر العشرة الماضية في إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة وأنظار العالم، وأدركت شعوب العالم أن هناك شعباً مظلوماً طرد من وطنه فلسطين منذ إعلان بلفورد عام 2017 ويكافح من أجل استعادة حقوقه المغتصبة بالقوة والعدوان. واليوم أصبحت القضية الفلسطينية تظهر بكل قوتها في مقدمة أولويات المجتمع الدولي بعد أن تمكنت إسرائيل بأكاذيبها وأعتداءاتها المتكررة ومناصريها من دول الغرب الشريرة من إستدال الستار على القضية الفلسطينية. ومن الأمور الإجابية أيضاً أن مقاومة الشعب الفلسطيني أوقفت تطبيع العلاقات الدول العربية أخرى كانت تنتظر دورها للاعتراف بالكيان الصهيوني. اليوم أصبحت القضية الفلسطينية على رأس أولويات العالم والأمم المتحدة ومجلس الأمن، وشعوب العالم، ويشعر الجميع أن هناك شعباً فلسطينياً مضطهداً ومغلوباً على أمره، وأن دولته فلسطين محتلة منذ عام 1948، وأن الشرق الأوسط لن ير الأمن والسلام إلا باستعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه المشروعة. وما حدث في الجميعة العامة للأمم المتحدة بتصويت أغلب الدول على إقامة الدولة الفلسطينية كان بفضل صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته وتضحياته العظمية في غزة. وعلى رأس قائمة الإيجابيات إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني وإعطائه حقوقه، حتى ولو كانت ناقصة، في إقامة دولة فلسطين على الأراضي المحتلة عام 1967. ومن المتوقع أن يتم ذلك بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة.
وأشكر القراء على قراءة المقال، ولا أنسى أن أشكر إخوتي العرب الأحرار في القرن القادم 3024م على تضامنهم مع الشعب الفلسطيني في القرن الحادي والعشرين.