أمهات المتوحدين يروين قصص الحب والدمع والأمل (2-3)

بلادنا الأربعاء ١١/مايو/٢٠١٦ ٠٠:٥٩ ص

مسقط - لميس ضيف

تأتي الحياة لتحمل للبشر مختلف أنواع التحديات والامتحانات.. ولا شك أن الامتحان الأصعب هو ذاك الذي يتعلق بالذرية والأطفال.. إنهم الوحيدون الذين توجعك الضربة فيهم أكثر مما توجعك في نفسك.. ويؤلمك مرضهم بشكل مضاعف، ولا تقلق على نفسك معشار القلق الذي يملؤك عليهم.. إنها الفطرة البشرية التي جعلتك وصيا على هؤلاء الضعفاء وزرعت في قلبك شجرة الرحمة لتظللهم بهم.. ولكن، ماذا يفعل الآباء والأمهات إن وجدوا أنفسهم أمام إعاقة جبارة لا علاج لها وفي مجتمع لا يفهمهم ولا يقدر معاناتهم مع مجموعة من أصحاب القرار الذين لا يقدرون حاجتهم -التي تفوق سواهم- للتعليم والعلاج والرعاية..

هذا هو ما ستعرفونه عبر متابعة هذه السلسلة التي وجدت ليفتح الأهالي قلوبهم ويرفعوا عقيرتهم بمطالباتهم التي طُمست طويلا.

مدارس طاردة

نطق كلمة توحد أمام المدارس كفيل بطردك من المدارس وكأنك قد ارتكبت جرما ما.. من أين أبدأ والحديث كله ذو شجون.. ممتلئ بالآهات ومثقل بالعبرات.. هكذا تبدأ أم نبراس حديثها متسائلة: ألا يكفينا أن أبناءنا مصابون بهذا الاضطراب ليتم تعذيبنا بحرمانهم من حقهم في التأهيل وتحويلهم لكرة يتقاذفها اللاعبون؟ إننا كأمهات نتعب ونسهر وندرب ونتعلم لنكون لهم معلمين كي يتحسنوا لتأتي الطامة الكبرى عندما لا يستقبلونهم في المدارس حتى وإن كانت حالتهم خفيفة لا تبدر منهم إلا سلوكيات ليس لهم فيها يد أو إرادة!!
وتقول: يكفي أن تنطق كلمة توحد أمام المدارس ليسارعوا بإخراجك وطفلك منها وكأنك قد ارتكبت جرما ما!.. ابني نبراس -ولله الحمد والمنة- طفل ذكي.. يقرأ، يكتب، يفهم، يحب اللغة العربية كثيرا ويحب الرسم والتلوين.. كم من مدرسة عندما أخبرهم بأن لديه طيف توحد يعتذرون عن استقباله من دون رؤيته أو تقييمه.. ولهذا تعلمت الدرس فصرت أطلب منهم تقييمه وتسجيله قبل أن أخبرهم لأرفع فرصته في الحصول على قبول. وفي كل مرة أقول لهم فيها إنه يعاني من طيف التوحد أخسر فرصة تسجيله..
وتؤكد: عانيت وعانيت.. من مدرسة لمدرسة.. اتصالات وشرح ومقابلات.. وعندما واتتني الجرأة لأخفي حقيقته ظهرت سلوكياته في المدرسة فأخبرتهم الحقيقة فأخرجوه وعدت للدوامة ذاتها.. سجلته في مدرسة ولم أخبرهم بحالته بعد أن أكد لي الأخصائيون أن نبراس حاليا لا يعد متوحدا بل لديه بعض السلوكيات التي تحتاج لجلسات.. ولكن جهودي ضاعت سدى ولم يستطيعوا تحمل وجود هذا الطفل بينهم واضطررت -مجددا- لنقله إلى مدرسة أخرى.
تتنهد بحسرة وتردف: نحتاج إلى وقفة جادة.. لا يمكن لطفل مثله أن تهدر طاقاته.. المضحك المبكي أن وزارة التربية لا تستطيع أخذ هؤلاء الأطفال بين جنبات مدارسها بينما تحاول إجبار المدارس الخاصة على أخذهم وتعاتبهم على طردهم لهم!! إنني وغيري من الأمهات قلقات من النظرة الدونية التي يقابل بها أبناؤنا ولا يمكننا تفادي فكرة تعرضهم للإهمال أو سوء المعاملة لوجود قناعة لدى المعلمين أنفسهم بأن هؤلاء أرض بور لا ينفع معها تعليم ولا تدريب.. إننا نعيش في ضغط نفسي لا يوصف.. نشعر بالذنب لأننا نخفي حقيقتهم أحيانا ولكننا لا نريد أن يُحرم أطفالنا من التعليم أيضا.. هناك مشروع لدمجهم لدى الوزارة ولا نعرف متى سيطبق.. عام، خمسة، عشرة!
وتسأل: لم لا يتم توفير مبان خاصة لهذه الفئة في المدارس كل بحسب قدرته؟ أو توفير معلمات الظل وأخصائيين يتدخلون وقت الضرورة؟ إننا نرى كيف تنهض الدول المتقدمة بهذه الفئة وتحولها لفئة منتجة.. أفلا يستحق أبناؤنا المثل؟

هل علينا أن نقفل عليهم الباب؟

كغيرها من الأمهات لم تستطع إيمان اليوسفي الوقوف على علامات التوحد التي أظهرها طفلها، وعندما سعت لتشخيصه اضطرت للانتظار عامين كاملين لتحظى بموعد في مستشفى الجامعة! وعن ذلك تقول: لم نتمكن من تشخيص ابني إلا عندما بلغ الثالثة من العمر بسبب طول المواعيد، ولم أحصل على تحويل لمستشفى الجامعة على مدار عامين! إننا نعاني من نقص ظاهر في المختصين.. وحتى عندما شُخص لم نستطع بسهولة إيجاد من يعلمه أو يؤهله.
وتضيف: لقد ألحقته بمراكز على حسابي الشخصي وضغطنا ميزانيتنا على أشدها وامتنعت عن الإنجاب فقط لأستطيع مساعدة طفلي.. ورغم أنه طفل متقدم يعرف الحروف والأرقام بالعربية والإنجليزية إلا أن كل هذا هو نتاج عنايتنا به في البيت لا في المدرسة الخاصة التي وافقت على تسجيله بها بشق الأنفس. ورغم أننا كنا ندفع لهم إلا أني اكتشفت يوماً بأن ابني لا يحظى بالعناية هناك وأنه مركون على الطرف، وعندما عاتبتهم على إهمالهم طفلي الذي يحتاج للعناية أكثر من سواه ردت علي معلمة الروضة قائلة «لا نريد ابنك أصلاً».. وعندما دخلت وزارة التربية في خلافنا هذا أشاروا علي بمدرسة معينة تكلف 3 آلاف ريال في العام الواحد، فهل هذا معقول؟ أليس أولادنا هؤلاء أطفالاً يحق لهم التعليم؟ وهل علينا أن نتركهم في البيت ونقفل عليهم الباب؟! أسئلتي تلك أوجهها لكل المعنيين بالطفولة وأنتظر كغيري الإجابة.

أختان في مواجهة التوحد

مــوزة الخروصــية وجـوخة الخروصـــية أخـتان شــاء القدر أن يهبهما طفلين توحديين لتؤازر كل منهما الأخرى، حالتهما ليست مختلفة التفاصيل عن غيرهما من الأمهات ولكن كفاحهما لتعليم ابنيهما كذلك.
تقول موزة: إن سألتموني أرى أن وجود الطفل التوحدي مع معاقين في مراكز الوفاء أو حتى مع أمثاله يزيد من حالته سوءا.. فهم يكتسبون العادات السيئة بسرعة، بينما يؤدي دمجهم مع أطفال أصحاء إلى تطور ملحوظ في وضعهم. لقد أدركت هذا منذ البداية وخضت صراعاً لألحق طفلي بمدرسة خاصة، لا سيما بعد أن لمست كم الإهمال الذي عانى منه في مراحل تأهيله. ورغم أني من سيدفع تكلفة تعليمه فإني كنت أصطدم في كل مرة بحائط من الرفض حتى تعاطف معي مدير مدرسة إشراقة الأمل بالمعبيلة الذي وافق على تجربة ابني لأشهر معينة. وقد لمست فرقا حقيقيا بعد ذلك. ومن واقع تجربتي أشجع وأطالب بدمج التوحديين في المدارس الحكومية والخاصة.
وتُثني جوخة على رأي أختها رغم أن طفلها ما زال محروما من حق التعليم لأنه لا ينطق، وهي تعقب بالقول: درجة توحد ابن أختي خفيفة بينما حالة ابني فوق المتوسطة، ما يجعل إلحاقه بمدرسة عادية حلماً بعيد المنال. لذا أكتفي مضطرة بمراكز التأهيل محدودة الإمكانيات والتي لا تحدث فرقاً جذرياً في حالة هؤلاء الأطفال. أضف لذلك أن ساعات ذهابهم للمركز محدودة لا تعدو الـ 3-4 ساعات، ما يعني أن على الأم النهوض بمسؤوليته باقي الوقت. وفي وضعنا فنحن موظفات، ما يعني أن متابعة هؤلاء الأولاد والعناية بهم تحدٍ يومي شاق. وكنت قد طالبت وزارة التنمية الاجتماعية بتوفير راتب خادمة لتساعدني على هذا الحمل الثقيل وما زال موضوعي معلقاً رغم الوعود.. إن ما نعانيه ليس بأمر يمكن التعاطي معه: أطفال يحتاجون للعناية كالرضع مع أن قدرتهم الجسدية كبيرة.

احتياجات عالقة

سألنا الأختين عن التسهيلات التي تحصلان عليها حاليا فتبادلتا النظرات وأجابتا: حصلنا على بطاقة معاق من وزارة التنمية الاجتماعية وما زلنا نجهل لليوم الفائدة منها.. فهي لا تمنحنا أولوية في مواعيد المستشفى ولا في صالات الانتظار.. إذ ننتظر دورنا بالساعات كغيرنا رغم أن هؤلاء الأطفال لا يحتملون الانتظار. حتى أن هذه البطاقة لا تؤهلنا لاستخدام المواقف المخصصة للمعاقين.
وقالت موزة: هناك حزمة من الاحتياجات العالقة لهذه الفئة المهمشة، فهم على سبيل المثال يتحسسون من بعض الأكلات ويجب أن يكون أكلهم بلا حليب ومشتقاته أو قمح ومشتقاته، ومثل هذه الوجبات مكلفة والمكملات الغذائية مكلفة كذلك وتحتاج لميزانية خاصة شهريا.. وليست هناك مساعدات للعائلات.
أما جوخة فدقت جرس الإنذار بخصوص أمر إضافي: المراكز الخاصة جشعة جدا.. 15- 20 ريالا للساعة واحدة! أليس هناك من يوقفهم عند حدهم؟ إننا نأمل من المسؤولين النظر في الاحتياجات المادية لعائلات مرضى التوحد، فالعبء ثقيل ولا تستطيع العائلات تحمله دون دعم.