أمهات المتوحدين يروين قصص الحب والدمع والأمل (1-3)

بلادنا الثلاثاء ١٠/مايو/٢٠١٦ ٠٠:٤٦ ص

بعض الموضوعات تكتبُك ولا تكتبها، وإن فتشت بين قوافل الكلمات فلن تجد ما يفيها حقها، ومنها معاناة مرضى التوحد الذين يعجزون عن البوح والتعبير عما يحتاجونه وما يختلج في خزائن صدورهم المقفلة.

لنسلط الضوء على وضع ومعاناة مرضى التوحد كان علينا أن نلتقي بأكثر الناس التصاقاً بهم وتأثراً بمعاناتهم. ومن غير الأمهات من يبوء بعبء بالغ الثقل كهذا؟
إننا نتحدث هنا عن مرضى التوحد.. ذلك المرض الغامض الذي لا أسباب واضحة له ولا علاج معروف له حتى يومنا هذا.. مرض شرس تقف أمام جبروته بين خيارين: إما أن تستسلم وتترك المصاب بلا عناية فيكبر الطفل مفتقداً أبسط مقومات الاستقلالية والقدرة على العناية بالذات، أو تناضل ضده وتؤهل الطفل ليحظى بفرصة جيدة في الحياة.
في هذا التحقيق نلتقي بتسع نساء مجاهدات يناضلن من أجل غد أفضل لأبنائهن، ويعرضن نواقص وملاحظات ينتظرن أن يجدن آذاناً تسمع لها.. وضمائر تستجيب..

مسقط - لميس ضيف

كانت البداية مع أم سالم التي شدت رحالها من الشرقية حيث تقطن لتلتقي بـ «الشبيبة» وتنقل قصتها وتشتكي همّ أبناء منطقتها قاطبة.. وهي تستهل حديثها بالقول: حتى سن الثانية، لم يظهر على طفلي ما يُثير شكوكي، كنت أراه طفلا طبيعيا ودودا.. ينادينا فرداً فرداً، يأكل دون مساعدة ويستخدم دورة المياه كذلك، حتى أطاحت به حمى شديدة لم يعد بعدها كما كان.. فجأة نسي النطق، أصبح يكرر حركاته بشكل مريب، يدور حول نفسه ولا يستجيب عند الحديث معه.

وأضافت: أخذته للمستشفى لتشخيصه، علما بأن مستشفياتنا في الشرقية لا تُقاس بمستشفيات مسقط، لذا فقد عجزوا بطبيعة الحال عن تشخيصه فطلبت منهم تحويلي إلى مسقط لما ظننته -وقتها- مشاكل في السمع. بحثت بنفسي علّني أفهم علة طفلي وأجد صدى لأسئلتي التي كانت ترتد عليّ دون إجابة. وهنا عرفت للمرة الأولى أن هناك مرضاً اسمه التوحد. إنها كلمة لا نسمع بها في منطقتنا وغالباً ما يصنف التوحدي عندنا بأنه متخلف، مجنون، أو غريب الأطوار..
تتنهد وتواصل: صدق ظني، في مسقط صنفوه بالفعل كمصاب بالتوحد، وبدأت رحلة المعاناة والأرق، فهو لا ينام ليلا وتكفيه ساعتان إلى ثلاث يوميا، وهو ما يعني أني لا أنام كذلك! وبما أننا في منطقة لا تنعم بأية خدمات أو دعم لمن هم مثله فقد طالبونا بالانتقال لمسقط.. وهنا وقعت بين نارين: هل أترك زوجي وأبنائي وأنتقل لمسقط.. أم أترك ابني مهملا دون علاج فيكبر بلا أية مهارات تعينه في هذه الحياة؟ ولو انتقلت لمسقط فأين أسكن وأين أعيش؟ وكيف أسكن وحدي؟ وكيف أتحمل كلفة الانتقال الباهظة؟ أيعقل أن نُجبر على خيار مرّ كهذا؟ في منطقتنا لا يوجد إلا مركز الوفاء الاجتماعي وفيه أخصائي واحد لكل 30 طفلا.. فكيف له أن ينهض بهم؟ وما مصير هؤلاء الأطفال؟ وكيف سيكون حالهم عندما يكبرون؟
وتواصل الأم شرح معاناتها فتقول: كانت الأسئلة تدور حولي في اليوم ألف مرة وتعصرني كثعبان ضخم.. فأفقد أعصابي وأعود لأستعيذ بالله.. فالحياة مع طفل توحدي غير مؤهل كارثة حقيقية.. إنه يحتاج لمراقبة على مدار الساعة، ويبتكر يوميا شيئا جديدا وغريبا.. ربما كان الوضع أسهل بالنسبة لمن يحظون ببعض المساعدة ولكن ظروفي لا تسمح لي بالاستعانة بخادمة، وهو ما يزيد الوضع تأزماً.. ناهيكم عن أن متابعة مواعيده في مسقط بين الحين والآخر أزمة بحد ذاتها..

حالات كثيرة مهملة

سألناها، ما حجم المشكلة في منطقتكم؟ وهل هناك حالات عديدة؟ فأجابت: الحالات كثيرة وكثيرة جدا.. لكنها مهملة بالكامل.. أعرف حالات عديدة وهناك حالات من أقربائي وكلهم لا ينعمون بتدريب يذكر.. إنه قدرنا ولا اعتراض عليه. ولكن مشكلتنا الأكبر هي: أيعقل أن يكون هناك مئة مركز هنا في مسقط ولا شيء خارجها؟!
ووجهت رسالة لوزارة التنمية بالقول: نطالب بحق أطفالنا هؤلاء.. إننا لا نتكلم عن تعليم ولا مدارس، إننا نطمح فقط بمراكز تؤهل الطفل ليعتمد على نفسه في الأكل وقضاء الحــاجة ولا يؤذي نفسه أو يضرها. وقد رأيت بنفسي كيف أن الطفل الذي يحظى برعاية يكون أفضل من غيره بكثير، وهو ما أريده -لا لطفلي فحسب- بل لجميع الأطفال في السلطنة.

العائلة كلها تضحي من أجله

تجربة مريم الفارسية مختلفة تماما.. تجربة تبعث الأمل، فقد كان وجود «عمر» في حياتها نعمة لم تتوقعها. وعن تجربتها تقول: تأخر نطق طفلي فوجلت كغيري من الأمهات ولكني جوبهت بسيل من التطمينات ممن حولى.. بدأت أرصد تحركاته النمطية وعجزه عن التواصل البصري ولكني لم أقلق وقتها.. لكن شيئا ما حدث جعل قلقي يترسخ، فقد اضطررت للذهاب لدورة عمل استغرقت أسبوعين في ماليزيا وعندما عدت استقبلني بلامبالاة عرفت بسببها -يقينا- أن طفلي يعاني من خطب ما. أخذته لمستشفى الجامعة حيث تم تشخيصه على أنه يعاني من طيف توحدي، وبدأت رحلة الغضب والحزن والإنكار التي مرت بفضل الله سريعا لإيماننا بأن الخير في ما اختاره الله.. وكان علينا وقتها أن نتخذ قرارا مصيريا، إما البقاء في منزلنا وولايتنا أو الانتقال لمسقط حيث يمكن لطفلنا أن يتلقى بعض العناية، ولم يطل الأمر بنا كعائلة حتى انتصرنا للقرار الثاني واعتزمنا أن نغير حياتنا كلها من أجل هذا الطفل..
وتابعت بالقول: نقلت عملي لمسقط.. وفعل زوجي المثل.. كما نقلنا باقي أطفالنا من مدارسهم.. لقد ضحت العائلة كلها من أجله ونحن سعداء أننا فعلنا.. فحياتنا تغيرت جذريا، نعم، إنما للأفضل.. أنا اليوم في موقع وظيفي متقدم، وزوجي كذلك، وأبنائي يتلقون تعليماً نوعياً.. وفوق كل هذا وذاك أثمرت تلك التضحيات في عمر.. فقد لمسنا قطاف التأهيل الذي يحصل عليه.. إنه يتفاعل بشكل أفضل، يتلقى الأوامر ويستجيب لها، يأكل ويشرب دون مساعدة، كما يعتمد على نفسه فيما يتعلق بنظافته الشخصية. ينطق بعض الكلمات التي تعيننا على فهمه، علما بأننا -بالإضافة لتسجيله في مركز التأهيل- ألحقناه بدورات سباحة وركوب خيل ودروس قرآن. وبسبب كل ذلك أجمع الأخصائيون على تطوره، ولله الحمد.
تبتسم مريم بفخر وتردف: ما خرجت به من تجربتي هو أنك من يصنع السعادة أو الشقاء لنفسك.. «فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً».. وإن مدى تقبلك لوضع طفلك ينعكس عليه لأنه يشعر بك في كل حالاتك.. أشجع دوماً الأخوات السلبيات على أن يغيرن من مقاربتهن للقضية، فكثيرا ما أرى الأمهات يخفين أولادهن خشية انتقادات الناس، وأنا أقول هنا وبثقة: إننا لم نرتكب ما نستحيي منه، وهؤلاء الأطفال هم أمانة من رب العالمين وعلينا أن نعطيها حقها كاملا غير منقوص في كل شيء: التعليم والخدمات الصحية والترفيه أيضا. أعرف أختاً -أصلحها الله- تعمد إلى حبس ابنها البالغ 12 عاما في البيت على الدوام وتشتكي من عنفه وتكسيره للمنزل، وأقول لها إننا كأصحاء «نطفش» ونمقت التقييد، فما بالكم بأولاد يعانون من فرط النشاط والطاقة؟ شخصيا لدى ابني عمر برنامج بشكل يومي.. وآخذه للحديقة وأفرض عليه الاندماج مع الآخرين، وعندما يأتي الصغار ليشتكوا منه ومن غرابة تصرفاته أحتوي الموقف وأخبرهم أنه يحبهم ولكنه «مختلف» عنهم وعليهم اللعب معه. وكنتيجة يجنّ الليل عليه وهو مرهق، لذا لا أعاني من صـــعوبات النـوم الكلاسيكية معه..

التوعية أولاً

وعما ينقصهم تقول: التوعية ثم التوعية ثم التوعية.. جزء مهم من المشكلة/‏‏‏ العلاج هو تقبل المجتمع لهذه الفئة. ولجهل المجتمع بطبيعتهم كثيرا ما يحكمون عليهم بالعناد أو يصنفونهم بأنهم أطفال مدللون أو غير مؤدبين. كنت في البداية، عندما أضطر أن أجثو في مجمع تجاري لتهدئة طفلي أشعر بإحراج كبير، أما الآن فقد قررت ألا أهتم سوى به وأتجاهل نظرات الانتقاد والاستهزاء. كنت أشعر بالانزعاج عندما أخرج معه لمطعم أو زيارة، أما الآن فأدخل مرفوعة الرأس، وقد انعكس كل ذلك عليه فانفتح على الآخرين. ونصيحتي للأخوات: تجنبن العزلة فهي عدوة التوحدي.. عدا ذلك فعلى المسؤولين عن ملفهم عبء كبير وننتظر أن يفوا بالتزاماتهم تجاه هذه الفئة وأن نرى منجزات حقيقية على الأرض. عائلتي تمكنت من الانتقال لمسقط لتوافر القدرة المادية ولكن ماذا عن الباقين المقيمين خارج مسقط وما مصيرهم؟ يجب أن تكون الأولوية اليوم لإنشاء قاعدة بيانات توضح حجم المشكلة بحيث يتم توزيع مراكز في كل منطقة تتناسب وحجم احتياجاتها.

نبكي ليل نهار

أم خلود لها وضع خاص.. فهي الوحيدة بين كل هؤلاء النساء التي ترعى «طفلة» مصابة بالتوحد.. وهي ترعاها جنبا لجنب مع ابن مصاب بالشلل الدماغي في الثالثة والعشرين من عمره. إنها سيدة مجاهدة.. مثال للصبر في المحن.. ورغم ذلك فقد أجهشت بالبكاء أثناء الحديث معنا، ومن يلومها؟ فهي تحمل ثقلا تنوء عن حمله الجبال..
عن حياتها تقول: مهما تحدثت لا أظن أن أحداً يستطيع أن يتخيل صعوبة وضعي.. ابنتي في الثالثة وما زالت عاجزة عن الأكل أو قضاء الحاجة بنفسها.. تحتاج لعناية طبية مكثفة هي وأخوها المصاب بالشلل الدماغي.. ولأن متطلباتهما كثيرة ولا توفر وزارة الصحة لنا المكملات الغذائية اللازمة ولا نجد إلا مواعيد متباعدة جدا فإن ذلك يضطرنا للجوء للطب الخاص الذي يستغلنا، فقد وجدت نفسي مضطرة للعمل في وظيفة خاصة. ومع مجاهدتي للوفاء بمتطلبات العمل والمنزل فإني أحس أحياناً بالوهن كورقة تتقاذفها الرياح.
وتضيف: إننا نبكي ليل نهار لكن من يسمعنا؟ معاناتنا سرمدية لا نهاية لها.. كل شيء تحد بالنسبة لي ولأمثالي. تخيلوا معي بأني أضطر لشراء ملابس جديدة رغم ظروفي المادية الصعبة لأن ابنتي تمضغ ملابسها وتبليها ولا أقبل لها أن تذهب للمركز أو المشفى بملابس مقطعة! وعندما نخرج من المنزل نشعر بأننا مجرمون بسبب النظرات الحادة التي يرمقنا بها الناس.. إنهم لا يعرفون عن مرض أولادنا ويرون أنهم مجرد أطفال أشقياء يثيرون الجلبة والفوضى ويرون أننا أمهات غير كفؤات عاجزات عن تربية أطفالنا، ولا يضع هؤلاء احتمال أن هؤلاء أطفال غير طبيعيين وإن بدوا كذلك..
تتمالك أم خلود نفسها وتواصل الحديث محاولة حبس دموعها: كيف نطلب من الناس أن تراعينا إن كانت وزارة الصحة نفسها لا تمنحنا أولوية ولا تراعي وضعنا الحرج؟.. في كل موعد لابنتي نضطر للانتظار ساعات وهي طفلة تعاني من فرط النشاط وترتبك وتخاف من الزحام والصوت العالي، ولكم أن تتخيلوا معاناتي في كل زيارة، ناهيكم عما ألقاه من ضغط وعتاب من أرباب عملي الذين لا يراعون حساسية وضعي مع أولادي ولا يعذرون ساعات الغياب هذه مهما حدث..
إنني أشعر بالغربة وبالألم المتصل الذي لا يهدأ ولا ينقطع.. أتلفت فلا أجد لي معيناً إلا الله.. فليس هناك في صفوف الأقرباء من ينشد عن حالي.. ولا الجهات الرسمية تراعي وضعي ووضع أمثالي.. ولا يتفهم أرباب العمل وضعنا كذلك..
أوصلوا صوتي للمسؤولين في كل من وزارتي الصحة والتعليم -قالت بصوت منهك- اهتموا بهؤلاء.. إنهم شريحة لها حق في التعليم والتداوي بما يلائم احتياجاتها.. أريد لابنتي أن تتعلم وتعتمد على نفسها.. ماذا لو حصل لي شيء؟ الخير كثير فلـــماذا تحرمــون أطــفالنا؟ إننا نشعر بالمذلة عندما نطلب العلاج، نشعر بالمذلة عندما نطلب التأهيل، نشعر بالضياع وننتظر منكم التفاتة تنتشلنا مما نحن فيه..
سكتت أحرف أم خلود عن الكلام، ولكن نحيبها استمر ليروي أضعاف ما روته هي من الألم.