بقلم: محمد محمود عثمان
الأوضاع الجيوسياسية العالمية تفرض نفسها على اقتصاديات العالم المتناحر للسيطرة على مصادر الطاقة والموارد الطبيعية ، ويغذيها المتصارعون على السلطة وأكثر المشاهد حضورا ما يضرب الاقتصاد الآن من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية ، وتأثر تدفق الاستثمارات العالمية، نظرا لاهتمام الدول الكبرى بتوفير الدعم المالي لأوكرانيا الذي بلغ نحو 150.8 مليار دولار، إلى جانب المساعدات العسكرية بنحو 48.5 مليار دولار، والمساعدات المالية والإنسانية بـ 102.2 مليار دولار،
بما تسبب أيضا في ضغوط على الاقتصاد العالمي وحجب المساعادات لمواجهة الكوارث الطبيعية ، وآخرها آثار الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا ، لأن ذلك يمثل واجهة عسكرية للصراع الدولي على الحدود والثروات التي تدعمها سياسات الهيمنة ، التي تثير المخاوف من مخاطر الاستثمار في مختلف مناطق العالم ، لأنه يحتاج إلي بيئة آمنة ومستقرة ، وكذلك ما يدور حولنا في ليبيا وسوريا ولبنان واليمن والعراق والسودان وفلسطين ،والتي لا يمكن أن تتمتع بثبات أو استقرار القوانين والتشريعات أو القدرة على تطويرها لجذب المستثمرين، وجميعها نماذج تدق لنا جرس إنذار، الذي يجب أن نصحو على صوته ، لتصحيح مناخ الاستثمارلدينا، قبل فوات الأوان ،لبث الثقة لدى المستثمر، لأن المخاوف من المعوقات من أخطر المشكلات التي تواجه المستثمرين في أي مكان وزمان،لأن المستثمرالخائف يظل مترددا في اتخاذ قرار الاستثمار ، حتى يشعر بالأمان والاطمئنان، خاصة إذا أتت المخاوف أيضا من الشعارات الجوفاء التي يتشدق بها البعض حول الاستثماربسهولة ، وسرعة إنهاء الإجراءات في وقت قياسي ،أو من خلال النافذة الواحدة أو الرخصة الذهبية ، في ظل استمرار تنازع الاختصاصات ، وتجذرالبيروقراطية في العقليات الروتينية ، التي ربما تستمتع بعذاب المستثمرين ،وكأنهم من الأعداء ، وإضاعة وقتهم وجهدهم في سلاسل الإجراءات القائمة ،التي تسيء إلى المناخ الاستثماري،لأن هناك من صغار الموظفين وبعض المسؤولين الذين يفرغون هذه الشعارات من مضمونها عند التنفيذ ،وتدفع المستثمرين دفعا إلى التراجع أو الهروب ،وتصبح الاشكاليات أكثر تعقيدا عندما تفتقد الأسواق إلى معايير الحوكمة ، وتتسم بإهدار المال العام ،أو في شركات القطاع الخاص ،ووجود شبهة الفساد المالي والإداري ، حيث لا يقتصر الفساد على سرقة أو اختلاس الأموال فقط ، لأن الفساد يمتد إلى سوء إدارة الشركات والاستثمارات ، في ظل انعدام الردع أو العقاب،وما يترتب على ذلك من بث الخوف وفقدان الطمـأنينة لدى المستثمرين المحليين والأجانب ، الأمر الذي يتسبب في فقدان الثقة في بيئة العمل الاستثمارية،وهروب الاستثمارات ، مع غرس الانطباعات السلبية لدى المؤسسات المالية العالمية ، التي تعوق تدفق الاستثمارات بقوة وتطرد المستثمرين بلا رجعة ، لأنه من الصعب تغيير هذه الانطباعات بسهولة ، ما يعوق التحول إلى التنمية الاقتصادية ، ويحرم الدول - التي أصبحت سيئة السُمعة - من الاستثمارات النشطة وطويلة الأجل ،التي تتطلب امتلاك نظام قوي وفعال للحوكمة التي تعد المفتاح الذهبي للتحكم في جلب الاستثمارالأجنبي وحماية الاستثمارات المحلية ، باعتبار أن الحوكمة من أهم العوامل المحفزة على جذب الاستثمار المباشر، إلى جانب توفُرالآليات الرقابية الفاعلة ،وسبل التقاضي وفض المنازعات ومنصات التحكيم ، التي تنظم الضوابط ضد الفساد المالي والإداري ، وإن كان هذا يتطلب ضرورة توفيركفاءات وخبرات عالية التدريب والمهارة والنزاهة،
خاصة إذا افتقدنا للأدوار الفاعلة للمراكز الاستشارية المستقلة لبحوث الاستثمار ، والهيئات والمؤسسات الحكومية المتخصصة،التي تقدم الاستشارات العلمية والدراسات حول تطوير معاييرالحوكمة والشفافية والإفصاح ، وتشريعات العمل المحفزة والمتوافقة مع الاتفاقيات الدولية ومعاييرالأنظمة المحاسبية والمؤسسات المالية والمصرفية العالمية،وارتباطها بالنظم التمويلية والبنكية المحلية،ودرجة التصنيف الائتماني المناسبة،ودرجات المخاطر المحتملة التجارية وغير التجارية أوالسياسية ،وخطط واستراتيجيات المشروعات الصناعية القابلة للتنفيذ الفوري ، ومستويات الأسعار والتضخم ،التي تستفيد منها الاستثمارات المحلية والأجنبية في مختلف القطاعات الاقتصادية ،في ظل عجز اللجان المتخصصة في غرف التجارة والصناعة المعنية بتطويرومساعدة القطاع الخاص ،التي قد لا تمتلك الخبرات المؤهلة لهذه المهمة ،
كما علينا في الجانب الآخر أن نفطن إلى ذلك ، ونحن نتضرر من الإشكاليات التي قادتنا إليها وشجعتنا عليها القوى المتربصة بالعرب، لتأجيج الصراعات البينية والحدودية والعقائدية والقبلية ، لاستمرار حالة عدم الاستقرار واستنزاف مواردنا الاقتصادية وإهدار طاقتنا في مجالات التجارة والصناعة والاستثمار،والتي تلاقت مع الرغبات الكامنة ، لدى تطلعات البعض الذين يعنيهم فقط اعتلاء مقاعد السلطة ولو على أنقاض دولهم ، بعد أن يتلقوا المعونات الاقتصادية والمساعدات العسكرية التي قد تستخدم لقمع شعوبهم ، ولاشك أن استمرارهذا الوضع يُشكل استنزافا مستمرا للموارد والمقدرات ، وعدم توجيه الطاقات المتاحة إلى التنمية والبناء ، وهى ترسم أسوأ صورة للمناخ الاستثماري غير الملائم ،وبذلك تستثمر القوى الكبرى ذلك لجعل المناطق المشتعلة جيوسياسيا أسواقا واسعة لمنتجاتهم المدنية والعسكرية وتجارة السلاح ، التي تمثل موردا هاما في إصلاح خلل الموازنات المالية في الدول الغربية ، على حساب الموازنات العربية ،التي تعاني من الخلل والعجز في العقد الأخير.