بقلم : محمد بن علي البلوشي
عند أول زيارة لي للعاصمة الألمانية برلين قبل سنوات شد انتباهي كثرة استخدام الزجاج بمساحات واسعة في البنايات الحديثة.. بينما لايوجد ذلك في الأبنية القديمة التي تعود إلى مئات السنوات فظلت كما هي عليه..وفي برلين الشرقية العاصمة السابقة لألمانيا الشرقية تسيطر الأبنية القديمة المستمدة من العمارة الأوروبية والحقبة السوفيتية..الأبنية الحديثة في المدينتين مزيج من الحداثة الأوروبية..فلماذا سيطرة الزجاج على مباني المدينة الحديثة.. يوظف المعماريون الأكفاء البيئة في الهندسة المعمارية لاستغلال كل معطى مناخي وبيئي في التصاميم فلا تشد العمارة عن ذلك. كثرة استخدام الزجاج ليس ترفا جماليا فحسب بل اقتصادي في المقام الأول ..فهو يستغل في الأيام الباردة لدخول الشمس للاستفادة منها في التدفئة وتقليل استغلال غاز التدفئة -وقد يساعد ذلك ألمانيا حاليا في ازمتها مع الغاز الروسي-.والثانية الاستفادة من الشمس في توفير الطاقة الكهربائية حيث يقلل حجم استخدام الاضاءة..المهندس المعماري الكفؤ هو من يجيد استخدام تلك المعطيات لتوظيفها في إبداعاته المعمارية..عندما أذكر ذلك وأعود إلى معمارنا الجديد كمنازلنا أتساءل حقا عن كثرة استخدام النوافذ الزجاجية الكبيرة في بيوتنا وفوق تكلفتها المادية فإنها تستدعي ملاحق اخرى كتفصيل الستائر اتقاء من حرارة الصيف كما يضطرنا ذلك لتحديد نوعها من الخلف بـ»بلاك أوت»..كما أن النوافذ الزجاجية ذات الاحجام الكبيرة قليلة الفتح في البيوت «الفلل» حتى شتاء من النادر فتحها للتهوية ومن الممكن استخدام نوافذ صغيرة بدلا منها للتهوية.كذلك الشرفات التي بدأت تظهر على المنازل من النادر في بيئتنا جلوس العائلة على الشرفات لاعتبارات اجتماعية، فثقافة جلوس العائلة على الشرفة غير متوافرة..هذه قد تكون في الشقق وفي مجتمعات اخرى. ومع كل هذا الذي أوردته يستمر الناس في استخدام هذه التصاميم في بيئة مناخية حارة وجافة جدا..لكن الكثيرين يذهبون مع الموجة السائدة دون أن يكلفوا انفسهم عناء السؤال عن جدواها وتكلفتها دون الاستفادة منها. ينطبق ذلك على الهجمة الشرسة السطحية جدا التي تخلو من قراءة فاحصة للتصاميم المعمارية وتكييفها مع الاقليم أو المحافظة والمتجسد في مشروع تطوير منطقة الحافة في صلالة..وهي منطقة ساحلية صدر مرسوم تقرير صفة المنفعة العامة فيها مع روي كذلك قبل سنوات طويلة ولاعتبارات اجتماعية تتمثل في موافقات الاهالي وتعويضاتهم وبعد ذلك الأزمة المالية خرجت علينا الشركة قبل نحو سنة ونصف بالتصاميم واعتماد المخطط..المهندسون المعماريون يدرسون عمارة البلد فيطبقون ذلك على معطيات المشروع إن كان الموقع ساحليا أو سهليا أو جبليا أو صحراويا او ريفيا أو مدينة..يأخذون هذه المعطيات ويدرسونها من كل الزوايا فيوظفونها في التصميم..تخرج التصاميم بمزيج يرتكز على التراث المعماري المحلي ممزوجا بالعمارة على المستوى الوطني إلى إضفاء لمسات عصرية عليه..مما تشكل ارتياحا للبصر.ومع ذلك انهال 99,99% على المشروع بالإعدام وعدم الرضا إلى المطالبة بنسفه ولايهم كم المال الذي أنفق عليه..اخرج كل واحد مابجعبته من أفكار. كل ذلك لمجرد ملاحظة صغيرة وبصورة هامشية جدا أعتقد ناشرها أنها لاتليق بالمكان أو دون توقعات الناس..فانساق العموم خلفها دون بصيرة وتفكير عميق وتحليل. شخصيا رأيت التصاميم وكلها ابنة البيئة بسيطة غير متكلفة ومعبرة وتستمد روحها من الهوية المعمارية للمحافظة والبلاد..لم أر أي مبرر للهجوم والانتقاص من التصميم المعماري الذي حافظ على هوية المكان وهو لم يكتمل..كيف بدا لحظتها الجمهور كارها لتراث ومعمار بلده دون أن يدرك اثر ذلك على ذاته ومكانه على المدى البعيد. زرت عددا من الدول الأوروبية شرقية وغربية واسكندنافية ورأيت كيف حافظت على مبانيها وتراثها المعماري وتجديده دون محو هويتها المعمارية في البناء الحديث بأقل مايمكن الحفاظ عليها. قصة الابنية والابراج الشاهقة قد يكون مصدرها نيويورك بينما تعتمد ولايات عديدة البناء الأفقي مع توسع محدود جدا في البناء الرأسي..وشرق اسيوية تقريبا ومنتشرة بطريقة لاتتوقف وتسبب الأذى للرقبة والعين وتفتقر للجمال إن كنا اعتدنا على نمطنا المعماري أو من محبي فنون العمارة..من شنغهاي إلى سيؤول إلى سنغافورة إلى بانكوك إلى كوالالمبور..هذه مدن زرتها حيث اجتاحتها عاصفة من الأبراج الشاهقة ولجأت إلى ذلك للتغلب على الاكتظاظ السكاني والنمو التجاري المتسارع بينما بقيت مدنها الثانية بطابعها المعماري ذاته..بينما يسعى البعض إلى استيراد التصاميم المعمارية المعلبة البعيدة عن البيئة المحلية دون السؤال كذلك لماذا نحتاجها. نظرة بسيطة تدل على أن المعمار ينبغي أن يستمد روحه من خصائص البيئة المحلية.فأسوار المنازل في جنوب البلاد ترتفع كثيرا عن اسوار المنازل في الشمال التي بشكل عام في حدود مترين ونصف او ثلاثة بينما قد ترتفع أسوار المنازل بأكثر من أربعة أمتار في الجنوب..الخلاصة أن تصاميم المكان هي ابنة البيئة وهي جزء من ملامح الانسان وثقافته..إن كل السلبية هي مفتعلة ولاتستند على وقائع..إنها تستند في محاولة بسط السلبية بأية طريقة وإن كانت خاطئة بل وتسويق المبررات لاعتبارها صائبة..المشروع منسجم ومتناغم في تصاميمه مع تباين الموقع ..هناك وسط السوق مثلا..والمنطقة في الأساس صمم معمارها كبلدة قديمة يعاد احياؤها بروح جديدة لايبدو زائرها فردا أو عائلة غريبا عنها ولاتشعرك بالغربة أو العزلة عن المكان..أكثر سياح المحافظة هم من منطقة الخليج في موسم الخريف والشتوي الاوروبيين اللذين كلاهما يميلان إلى المعمار الهاديء والتصاميم الأنيقة المستوحاة من عناصر البلاد وليست مستوردة..إنهم يبحثون عن شيء جديد وتجربة جديدة في مفهوم السياحة الثقافية..دعونا ننظر إلى الكأس عندما يمتلئ لا نصفه فنكسره.