مسقط - ش
إنها آفة، إذا ذُكر اسمها تصيبك بالخوفِ والهلع، لأنها لا تضر من يتناولها فقط، بل كل ما يحيطُ بها... مخاطرها متنوعة، وعواقبها مُتعددة... إنها المخدرات ذلك التيار الجارف الذي لا يبقي في طريقه شيئا إلا وأخذه معه إلى أصعب النهايات على الإطلاق وهي الموت، تفتك بالعقول والأجساد وتسحق في طريقها أمنيات وآمالا، ومبادئ وقيم وأخلاق.
مآس وقصص واقعية سنطرحها لكم من خلال هذا التحقيق الذي اقتحمنا فيه عالم المخدرات ودخلنا أروقة عديدة لجهات لها علاقة بمكافحة هذه الآفة، للبحث عن أي عوامل تؤدي إلى سلوك هذا الطريق ذو العواقب الوخيمة، محاولين الحصول على حلول ربما تساهم في الحد من انتشار المخدرات في مجتمعنا العماني المحافظ.
مستنقع الهلاك
كانت بدايتنا مع بعض أفراد من المجتمع العماني، فيما يخص المدمنين ودورهم تجاه ظاهرة الإدمان بشكل عام، بعضهم رفض ذكر اسمه لوجوده في مجتمع تكثر فيه حالات الإدمان، ومن بين هؤلاء (م.م) حيث قال: إن المخدرات تنتشر في المنطقة التي أعيش فيها بشكل خطير جداً بين شباب أعمارهم 16-23 سنة، وعزا ذلك كون البلدة التي يعيش فيها هي بلدة ساحلية تقع في إحدى المحافظات الشمالية للسلطنة، ويقول بصراحة يتم تهريب المخدرات من بلد آسيوي مجاور عن طريق البحر وتتم المتاجرة بصحة وعقول أبناء هذا الوطن، مبيناً أن عدد المدمنين الذين أعلم بإدمانهم يفوق مائة مدمن تراهم في تجمعاتهم الليلية بوضع مزر لا يمت بصلة إلى أخلاقيات مجتمعنا المسلم المحافظ، ويضيف أن الإدمان سبب العديد من المشاكل الاجتماعية التي جعلت كثير من الأسر تتفكك وتهوي نحو مستنقع الهلاك والتشتت.
بداية الإدمان
ويسرد لنا (م.م) قصة إحدى العوائل المقربة لديهم حيث يقول: إن ابنهم بدأ بالإدمان وهو بعمر الـ 20 سنة من خلال رفقاء السوء ومشاركته لهم في التجمعات التي عادة ما تكون بعد منتصف الليل، ويقول لم نحتج لفترة طويلة لكي نتأكد أنه أصبح متعاطيا للمخدرات، وذلك من خلال تصرفاته ومظهره اللذين لم يعودا كما في السابق، عائلته بأكملها على علم بذلك ما عدا والده، ولكن المصيبة هي أن والدته تصر بالدفاع عنه وتكذب أي اتهام موجه لابنها بأنه أصبح مدمنا، بالرغم من عِلمها بأنه يقوم بسرقة مقتنيات عديدة من البيت ومن قيمتها يشتري تلك الآفة، حيث قام في البداية بسرقة ذهب وأموال والدته وحتى اسطوانات الغاز وأجهزة التكييف لم تسلم هي الأخرى، ويكمل (م.م) أنه أخبر والده ليذهب إلى والد المدمن ويخبره بحقيقة ابنه كونهم أقارب، ولكن للأسف لم يصدق ورفض فكرة أن يكون ابنه مدمنا بخاصة مع الدفاع الذي يجده المدمن في منزله من والدته، لذلك بعد كل محاولات النصح قمنا بالابتعاد عنهم والاكتفاء بالسلام فيما بيننا لعل وعسى يتوقفون عن التكتم على إدمان ابنهم ويقوموا بعلاجه وإنقاذه.
ويضيف (م.م) أن الابتعاد عن الخالق وترك الصلوات أول المسببات للوقوع في وحل الإدمان فعادة بوقت الصلاة نحن ندخل المسجد للصلاة وهم وكأن آذانهم بها صمم وأعينهم لا ترى، ويستمرون بتجمعهم تاركين أهم عبادة في ديننا الحنيف لذلك لا يوجد ما يعصمهم من الوقوع في مآس كهذه، قال تعالى: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }. الآية (45) من سورة العنكبوت.
مجرمون أم ضحايا
وإذا ما صنَّفنا متعاطي ومدمني وتجار المخدّرات فهل سنضيفهم إلى قائمة المجرمين أم الضحايا، يُجيبنا في ذلك المواطن علي العوادي حيث قال: الشخصية الضعيفة المهزوزة الاستعدادية التي رَبَتْ في بيتٍ مليء بالمشاكل والعلاقات الأسرية المهزوزة قد تلجأ للتعويض ويسهل عليها الوقوع فريسةً في عالم المخدرات، ومن هنا قد نقول عنها ضحية، وقد نقول عن الشخصية إنها مجرمة عندما تكون مضادَّة للمجتمع والتي غالباً ما تتمثل بتجار المخدرات الذين يبحثون عن المال بشكلٍ نهِم، حيث يجدون المتعة في تلك التجارة وتعمى أبصارهم أمام المال الوفير حتى وإن انحرف تحت أيديهم المئات من الأشخاص.
وختم العوادي حديثه ببعض التوصيات فقال: يجب إنشاء مراكز صحية متعددة للتداوي وإشعار الشباب المدمنين بأهمية العلاج بمختلف مناطق السلطنة، وتوقيع أقصى العقوبات القانونية الرادعة على المهربين والمروجين والمتاجرين في المخدرات، وكذلك التوعية الدينية لكل فئات المجتمع الديني بأضرار المخدرات والمسكرات، وتحريمها شرعًا وقانونًا، إلى جانب تربية الأبناء على منهج الإسلام، وتقوية الوازع الديني في نفوسهم.
مسألة مجتمعية
كما كان لنا حديث مع زوجة أحد المدمنين الذي وافته المنية منذ فترة حيث كان يمر بمرحلة علاج من هذا المرض فقالت (ف.م): انجرف زوجي للإدمان بسبب طرده من المنزل وذلك لعدم تفوقه الدراسي، ما أدى ذلك إلى سفره لخارج السلطنة لإحدى الدول الخليجية للحصول على وظيفة، وقد عمل هناك في البحر وتعرف على رفقة ليست بالطيبة، وكانت بداية طريقة للإدمان. وتكمل حديثها قائلةً: تختلف طريقة تعاملي مع زوجي في حالة التعاطي من عدمها، حيث كنت أعامله بخوف وحرص عندما يكون متعاطيا لهذا السم أجتهد بعدم تركه وحيدًا بدون مراقبة، وبينما يكون في حالته الطبيعية أتعامل معه كزوج في جو يطغى عليه السكينة والاطمئنان، ولا يجب التعامل معه على أنه مجرم ارتكب جريمة لا تغتفر، ولكن يكون التعامل معه على أساس أنه ضحية ومريض في حاجة ماسة للمساعدة، ويجب التخلص من الأشياء التي تؤثر على ذهن المريض وأفكاره نحو التعافي، وهي ثلاثة: المؤثرات البصرية والسمعية والحسية، وعلينا اليقين التام أن هذه المسألة ليست متعلقة بأسرة وحسب وإنما هي مسألة تخص المجتمع ككل.
تضحيات كبيرة
وفي ما يخص الفترة التي كان يتعاطى فيها، وما هو دور الأسرة في احتوائه أثناء فترة علاجه أجابت: مرت أكثر من 10 سنوات وهو يتعاطى المخدرات، ويجب مراعاة أن هذه المسألة تخص الأسرة بشكل خاص والمجتمع بشكل عام، ولا تقتصر على المدمن فقط، حيث إن الجميع قادر على المساعدة ولو بالكلمة الطيبة، خصوصاً أن فترة العلاج صعبة جداً وتحتاج إلى تضحيات وصبر كبير ومشاركة الأهل جميعهم، والذين بدورهم يقومون بالنصح والارشاد، وتعتبر الأسابيع الاولى هي أصعب مرحلة للعلاج، حيث إن هذه الفترة تشهد التقلبات، وتختلف فيها أفكار المدمن، وكذلك يجب توضيح أن المريض المدمن في مأزق لا يستطيع الخروج منه وحده، وهو يحتاج إلى وقفة جادة من الأسرة وبرنامج علاجي منظم.
ما بعد العلاج
وحول كيفية العيش بعد فترة العلاج قالت (ف.م): بحمد الله وجهود الحكومة الموقرة تحت ظل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم -حفظه الله ورعاه- هناك مستشفيات تعمل على علاج هذا المرض، ولكن ماذا بعد فترة العلاج؟ فهناك مدمنون لا يعملون وآخرون لا يملكون منزلاً، كما يوجد مدمنون قد يكونون خسروا أولادهم وزوجاتهم، ومن هنا فأنا أناشد الجهات المعنية وعلى رأسها وزارة التنمية الاجتماعية دراسة مثل هذه الحالات وذلك بعد انقضاء فترة العلاج والتعافي التام من المرض بتوفير عمل يكون عائداً على الأسرة، حيث يساهم ذلك في غرس الأمان والطمأنينة في نفس المدمن مما يؤدي إلى شعوره بالمسؤولية، وتجنبه من الرجوع للإدمان من جديد.
مدمن سابق
وبعد محاولات عديدة للوصول إلى أحد المدمنين استطعنا التوصل إلى مدمن ترك طريق الإدمان نهائياً منذ فترة بسيطة وقام بالعلاج، فذكر لنا بداية قصته والمراحل التي مر بها إلى أن وصل به الحال إلى ترك الإدمان نهائيا، فيتذكر (س.ع) بداية دخوله عالم الإدمان بقوله: قضينا أنا و4 آخرين عقوبة بالسجن لمدة 3-5 سنوات بتهمة السرقة، ومن هنا بدأت الحكاية من خلال التعرف على بعض المروجين لكل تلك السموم، والذين يرسمون لك طريقة الحياة ونسيان الماضي.
ويضيف (س.ع): قمت بتجربة الحبوب بعد أن قيل لي إنها ستنسيك المدة التي ستقضيها بالسجن وتجعل أيامك تنقضي بسرعة، هذه الحبوب تعددت أنواعها إلى أن تطورت إلى إبر وغيرها من أنواع المخدرات وأصبحت مع مرور الوقت مدمن ولا أستطيع تركها بل وأشعر برغبة جامحه لتعاطي المزيد، انقضت المدة وأنا على ذلك الحال وأصبحت خارج السجن ولم استطع ترك الإدمان ولم أسع إلى ذلك أصلا، وبدأت ببيع المخدرات ونشرها بين الشباب المراهقين للمكسب المادي، حيث كنت أقوم بخلط المخدرات مع التبغ والسجائر لكي تبدو لهم أنها مجرد سجائر فقط إلى أن يدمنوا ويضطروا للدفع ليتمكنوا من الحصول عليها، أعترف بأنني كنت خاليا من الإنسانية والعديد من ضحاياي الان اصبحوا تائهين ويقومون بالسرقة وغيرها من الأفعال وهم ما زالوا بسن المراهقة.
رحلة العلاج
وتابع قائلا: هناك فئة منهم قاموا بالتوجه للعلاج لعدم مقدرتهم على توفير المال ليدفعوا، وأنا أحد هؤلاء، حيث عزمت قبل عامين أن أترك هذا الطريق وبالفعل توجهت إلى إحدى الدول الخليجية لتلقي العلاج المجاني أنا وبرفقتي آخرون ومكثنا هناك أكثر من شهر، فذلك المستشفى يعج من كثرة المدمنين ومن مختلف الدول الخليجية، إلى أن بدأت بتلقي العلاج الذي استمر لـ 3 أسابيع. أخبرني الطبيب بعدها أنه بإمكاني الخروج والعودة إلى بلادي وممارسة حياتي الطبيعية بعيداً عن ذلك العالم المظلم، وحذرني من مرحلة ما بعد العلاج قائلا إن أخطر وأهم مرحلة من مراحل التخلص من الإدمان هي مرحلة الاشتياق، وتبدأ حين تعود إلى وطنك وترى أمامك أصدقاءك السابقين وتدور بك عجلة الذكريات، حينها يجب أن تكون قويا وتتخذ قرارات تخصك بتغيير الصحبة وطريقة حياتك اليومية، ولكنني للأسف لم أستطع رغم محاولاتي التي كانت خجولة شيئا ما، حيث إنني كنت أصلي يومياً بالمسجد وأحضر المحاضرات، وأحاول جاهداً أن أبتعد عن الصحبة السابقة لكنني لم أستطع فعدت بعد أقل من أسبوعين للإدمان من جديد، لكنني بتوفيق من الله وبسبب نصح أصدقاء مقربين لي عدت من جديد لتلك الدولة وأنهيت علاجي واجتزت كل العوائق، ومنذ عودتي إلى أرض الوطن تركت رفاق السوء ومجالسهم، وانتظمت على صلاتي وقراءة القرآن وحضور المحاضرات.
مسؤولية تكاملية
وحول دور شرطة عمان السلطانية في كيفية التعامل مع هذه الظاهرة التقينا بالرائد سليمان بن سيف التمتمي رئيس الشؤون القانونية بالإدارة العامة لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية وحدثنا قائلاً: يتم التعامل مع جريمة المخدرات حالها كحال بقية الجرائم الأخرى، حيث يتطلب ذلك عددا من الإجراءات للبحث الجنائي لمنع ارتكاب هذه الجريمة وتتمثل بتحديد أماكن وأوقات ارتكاب الجريمة، ومعرفة نوعية الأشخاص الذين يرتكبون الجريمة (سنهم، مستواهم الثقافي، أسلوبهم الإجرامي)، كما يجب على رجال المباحث توقع حدوث ظواهر إجرامية قبل وقوعها ووضع كافة الاستعدادات لمحاربتها، ويجب أن يكون لدى الشرطة الكثير من المعلومات المسبقة عن الجرائم التي ينتظر حدوثها، وكذلك يجب عليهم الاستمرار في مراقبة المجرمين والمشتبه بهم دون كلل وملل، والاستمرار في مراقبة الأماكن التي يتردد عليها المجرمون، إضافة الى ذلك ينبغي الإكثار من الحملات التفتيشية والمداهمات على البؤر الإجرامية والتي يسبقها تحريات دقيقة، وأيضاً تسيير الدوريات والبحث والتحري والرقابة والتفتيش على المنافذ الحدودية، إلى جانب نشر التوعية الأمنية بين أفراد المجتمع والذي يعتبر مسؤولية تكاملية بين الجهات الأمنية والمجتمع.
حاجز عدم القبول
وأوضح الرائد أن المشرع العماني نظر إلى متعاطي المواد المخدرة على أنه مريض ويستحق العلاج، وذلك إذا بادر إلى طلب العلاج من الإدمان في إحدى المصحات سواء كان من تلقاء نفسه أو بطلب من أحد أفراد أسرته شريطة ألا تكون قد حركت عليه الدعوى الجزائية أو ضبط بهذه الجريمة، كما أن القانون منح للمحكمة المختصة جواز إيداع من يثبت إدمانه للمواد المخدرة أو المؤثرات العقلية في إحدى المصحات للعلاج بدلاً من توقيع العقوبة المنصوص عليها من القانون، مشيراً الى أن هناك عددا من الوسائل التي يمكن من خلالها مساعدة المدمن المعافى في اندماجه بالمجتمع، ومنها الأسرة التي يجب عليها أن تقف بجانب المتعافي وأن تأخذ بيده للعودة إلى طريق الصحيح، ويجب على الأسرة أن لا تعامله على أنه شخص غير مرغوب، وتساعده للابتعاد من رفقاء السوء، وتنمية بعض المهارات الايجابية لديه حتى يستعيد ثقته بنفسه، وكذلك دور المجتمع الذي يجب أن ينظر للمتعافي بنظرة ايجابية، ويساعده على تخطي حاجز عدم القبول، ويعطيه الاحساس بأنه يستحق الحصول على فرصة جديدة لإثبات ذاته، بالإضافة إلى الجهات المعنية ذات العلاقة فإن عليها توفير برامج إعادة التأهيل والدمج في المجتمع وهو الدور التي تقوم به وزارة الصحة من خلال بيوت التعافي.
عنصر ردع
وختم الرائد حديثه بالاشارة الى العقوبات التي تفرضها الشرطة اتجاه المتعاطين والمروجين فقال: إن العقوبات التي يفرضها قانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية تصل في أقصاها إلى السجن مدة 3 سنوات وبغرامة لا تزيد عن 3 آلاف ريال عماني على من يتعاطى أي من المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية الواردة في القانون في غير الحالات المرخص لها قانوناً، موضحاً أن القانون الصادر بموجب المرسوم السلطاني رقم 17/1999 بتاريخ 18/ ذي القعدة/ 1419هـ الموافق 6/مارس/1999م، يشتمل على عدد من الجوانب التنظيمية والوقائية والعلاجية والعقابية، ومن حيث الجوانب العقابية تجد أن القانون نص على عدد من العقوبات بحسب طبيعة الجرم المرتكب والتي تتمثل في الإعدام والسجن المطلق أو المؤقت والغرامات التي تصل إلى 50 ألف ريال عماني، حيث شكلت هذه العقوبات عنصر ردع للمهربين وتجار المخدرات ومروجيها، وقطع الطريق أمام كل من يحاول المساس بأمن الوطن والمواطن وتطبيق الجزاء والعقاب المناسب له.