الملاريا والعودة القاتلة

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٢/مايو/٢٠١٦ ٠٠:١٥ ص
الملاريا والعودة القاتلة

ثييري دياجانا ؛ نِك وايت

يُعَد الانخفاض الهائل في أعداد الوفيات الناجمة عن الإصابة بعدوى الملاريا منذ مطلع هذا القرن واحدا من أعظم قصص النجاح في مجال الصحة العامة في السنوات الأخيرة. فبفضل استثمارات مكثفة ومتناغمة في مجالات الوقاية والتشخيص والعلاج، انخفض عدد الأشخاص الذين يقتلهم المرض كل عام بنسبة 60% منذ عام 2000، وكان ذلك يعني إنقاذ أرواح أكثر من ستة ملايين إنسان.
ولكن مع هذا، وحتى في حين يبدو حلم القضاء على الملاريا أقرب إلى التحول إلى حقيقة واقعة، تهدد مقاومة الأدوية هذه المكاسب المذهلة. فقد ظهرت مقاومة االدواء الأكثر فعالية للملاريا (أرتيميسينين) في كمبوديا وبدأت تنتشر في مختلف أنحاء دلتا نهو ميكونج.
وفي غياب التدابير الفعّالة والعاجلة، فسوف ينتشر هذا الشكل الجديد من أشكال الملاريا المقاوِمة للأدوية على نطاق واسع ــ وهو النمط الذي حدث بالفعل مرتين مع أدوية الملاريا الأقدم. ويتعين على الحكومات والمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني والشركات أن تتخذ خطوات عاجلة لمنع وباء الملاريا المقاوِمة للأدوية ومنع تكرار هذه الحلقة المؤلمة.
ومن أجل تأخير انتشار المقاومة لفترة طويلة بالقدر الكافي للسماح بظهور أدوية جديدة ودخولها إلى الاستخدام، فلابد من تحقيق هدف عاجل في الأمد القريب: منع المقاومة من ترسيخ نفسها في جنوب وجنوب شرق آسيا والانتشار إلى أماكن أخرى. وإذا كان لنا أن نسترشد بالتاريخ، فإن مقاومة العقار أرتيميسينين ربما تنتقل إلى الهند ثم إلى منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا وبقية العالم، وهذا كفيل بتعريض حياة الملايين من البشر للخطر وتهديد عقود من التقدم.
في خمسينيات القرن العشرين، ظهرت مقاومة دواء آخر، كلوروكين، على طول الحدود بين تايلاند وكمبوديا. وحدث نفس الشيء في السبعينيات مع الدواء سلفادوكسين بيريميثامين. ومن جنوب شرق آسيا، انتشرت مقاومة الكلوروكين والسلفادوكسين بيريميثامين إلى الهند، ومن هناك إلى أفريقيا وقسم كبير من بقية العالم. وتوفي الملايين نتيجة لذلك، وأغلبهم من الأطفال الصِغار في أفريقيا.
وسوف تكون عواقب مقاومة الأرتيميسينين على نطاق واسع مدمرة على نحو مماثل. وحتى أكثر التقديرات تحفظا ترسم صورة قاتمة. فقد وجدت إحدى الدراسات أن انتشار المقاومة ربما يفضي إلى أكثر من 116 ألف وفاة إضافية كل عام ونحو 417 مليون دولار أميركي من التكاليف الطبية والخسائر في الإنتاجية ــ فضلا عن 12 مليار دولار بسبب خسائر الإنتاجية التي تتكبدها بالفعل منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا كل عام.
على الرغم من المخاوف الواسعة النطاق على مدار السنوات الثماني الماضية، لم يجر احتواء مقاومة الأرتيميسينين حتى الآن. بل على العكس من ذلك، تم اكتشافها في كمبوديا وفيتنام ولاوس وتايلاند وميانمار على الحدود الشرقية للهند.
وقد طرأت زيادة محمودة في دعم المانحين، وخاصة مبادرة مقاومة الأرتيميسينين الإقليمية بتمويل من منحة بقيمة 100 مليون دولار أميركي من الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا. ولكن التعزيز البطيء لتدخلات السيطرة التقليدية لم يثبت قدرته على سبق انتشار المقاومة.
لكي يتسنى لنا إنهاء الملاريا فنحن في احتياج إلى جبهة موحدة ضد محركات المقاومة. وبالإضافة إلى الجهود الرامية إلى احتواء مقاومة الأرتيميسينين في شبه منطقة ميكونج الكبرى، هناك احتياج إلى اتخاذ تدابير عاجلة في أماكن أبعد. فوفقا لتقارير منظمة الصحة العالمية، حتى شهر نوفمبر 2015، كانت السلطات الصحية الوطنية في ست دول أفريقية وفي كولومبيا لم تسحب بعد تراخيص تسويق العلاج الأحادي باستخدام الأرتيميسينين عن طريق الفم ــ وهو محرك كبير للمقاومة.
وسوف يتطلب الأمر الحصول على تعهدات أقوى من قِبَل القطاع الخاص أيضا. فاعتبارا من ديسمبر 2015، كانت 21 من شركات الأدوية التي اتصلت بها منظمة الصحة العالمية لم توافق بعد على وقف إنتاج العلاجات الأحادية باستخدام الأرتيميسينين عن طريق الفم. ويقع أكثر من ثلثي هذه الشركات في آسيا.
ويتعين على شركات الأدوية القائمة على البحوث أيضا أن تستثمر في الجيل القادم من الأدوية المضادة للملاريا. ورغم أن العديد من العلاجات التي تعتمد على الأرتيميسينين تظل فعّالة، فلابد من إحلالها عند مرحلة ما ــ أو نجازف بتحولها إلى جزء من المشكلة.
على نطاق أوسع، كانت شراكات تطوير المنتجات، مثل مبادرة أدوية من أجل الأمراض المهمَلة ومشروع أدوية الملاريا، تعمل على جمع الشراكات الأكاديمية والدوائية والتمويلية لتسليم علاجات جديدة محتملة للأدوية المهمَلة. ومن الممكن أن تتولى هذه الأشكال من التعاون رعاية مركبات واعدة من خلال عملية مطولة ومكلفة لتطوير العقاقير وتأمين الموافقة عليها.
ويجري حاليا تطوير مركبين جديدين آخرين في المرحلة الثانية من التجارب السريرية بدعم من مشروع أدوية الملاريا ــ أحدهما لدى شركة تاكيدا للأدوية والمعاهد الوطنية الأميركية للصحة، والآخر لدى شركة الأدوية الفرنسية سانوفي.
ربما نفوز بالعديد من المعارك ضد الملاريا، ولكن علامات التحذير المألوفة تشير إلى أننا ربما نخسر الحرب. . وإذا لم ننتبه إلى الدروس المستفادة من تاريخ الملاريا، فربما يُحكَم علينا بتكراره.

ثييري دياجانا: رئيس معهد نوفارتيس لأمراض المناطق المدارية في سنغافورة.
نِك وايت أستاذ طب المناطق المدارية في بانكوك.