بقلم: خالد عرابي
في مثل هذا اليوم (21 فبراير) من عام 2013 رحل عن عالمنا أحد أعمدة الصحافة العمانية وأبرز رجالها المخضرمين وواحد من القلائل الذين وضعوا بصمات لا تنسي في عالم الإعلام، فضربوا المثل في خدمة الوطن ليس محليا فحسب بل عالميا، إنه المرحوم الشيخ عيسى بن محمد بن عيسى الزدجالي.. الأب المؤسس لدار مسقط للصحافة والنشر والتوزيع -مجموعة مسقط للإعلام حاليا-، والذي بدأ رحلة الإعلام وحلمه الكبير بأول إصدار وهو جريدة "تايمز أوف عمان" في عام 1975م..
ونحن نستذكره اليوم في الذكرى التاسعة على رحيله، نستحضر سيرته العطرة وبنيانه الذي أسس على الخير والمعرفة والتنوير نتيجة إدراكه المبكر لأهمية الإعلام ودوره في الترويج والتثقيف والتنوير والإبداع وأخذ بلاده للعالمية، وإدراك أهم وهو أن ذلك لن يتم إلا بلغة الآخر (الإنجليزية) ولذا كان أول إصدار له بالإنجليزية وليس بالعربية، ولذا نستطيع أن نقول أن الشيخ عيسي الزدجالي كان رجل سابق لعصره وأوانه، إذ أننا لو تأملنا لوجدنا أن أول مشروع إعلامي له ترك بسببه عمله ومنصبه في وزارة الخارجية العمانية وتفرغ لتأسيس جريدة تايمز أوف عمان، وهذا في أبسط معانيه يعنى الإدراك المبكر لأهمية الإعلام الأجنبي أو لنقل لأهمية الإعلام بلغة الآخر وخاصة الإنجليزية كلغة عالمية، في ظل وجود كثير من العرب ما زالوا وإلى الآن يخاطبون الأخر باللغة العربية، دون تفكير وتأمل: كيف ستصل رسالتهم!
إن المتأمل لما قام به الشيخ الراحل والأب المؤسس عيسى الزدجالي يدرك إنها خطوة سباقة ومبكرة جدا، وسبق ليس صحفي، بل فكري وعملي وتنويري ودولي، فكما نعرف أن "تايمز أوف عمان" تأسست في عام 1975 أي في العام الثاني لتولي المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه- الحكم، وبالطبع في ذاك الوقت كانت سفينة الوطن تتحسس طريقها وسط عباب البحر وتخطو خطواتها الأولى نحو النهضة والتقدم وسط أمواج متلاطمة و"سفينة وطن" ما زالت تحبو على غرار السفن الخشبية التقليدية التي كانت في ذاك الحين، ولكن جاءت خطوة المغفور له الشيخ عيسى الزدجالى - الجريئة- لتتحدى الأمواج العاتية وتشق عباب البحار وتسلط الضوء على ما يتم على أرض الوطن الغالي ليس محليا فحسب بل إبرازه خارجيا وعالميا من خلال اللغة.
لقد كان الدافع الحقيقي وراء هذا الطموح وهذا الحلم الكبير - الذي أصبح واقعا- لدى الشيخ عيسى الزدجالي "رحمة الله عليه"، بل وقاده ومن بعده جيل الأبناء إلى أكبر مؤسسة إعلامية في السلطنة حاليا هو حب الأب المؤسس الكبير لوطنه المعطاء، وعشقه لبلده الحبيب (عمان)، وشغفه لخدمة هذا الوطن، مما ألهمه تلك الفكرة الوثابة وقاده لإطلاق أول صحيفة باللغة الإنجليزية في السلطنة لتكون بمثابة لسان حال عمان نحو العالم .. وكأن الأب المؤسس تأثر بعمله الدبلوماسي في وزارة الخارجية وأراد أن تكون هذه الصحيفة "سفيرة عمان" المتنقلة في العالم، وقد كان له ما أراد.
تجربة الصحافة العربية
إن تجربة الصحافة العربية في مجموعة مسقط للإعلام - دار مسقط للصحافة والنشر والتوزيع سابقا- جاءت لاحقاعلى يد الأب المرحوم عيسى الزدجالي حيث تأسست "الشبيبة" وصدر عددها الأول في 4 يونيو 1990م، وبدأت كصحيفة أسبوعية – رياضية، ثم تحولت منذ 2 يناير 1993م في حلة جديدة كجريدة يومية تهتم بالشباب والرياضة وليتوافق إصدارها مع تخصيص المغفور له بإذن الله تعالي السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه- عام 1993م عاما للشبيبة وبدأت في الصدور الثاني باسم مجلة الشبيبة وكأول عمل صحفي عماني ذا توجه خليجي ويخاطب الشباب، واستمرت هكذا حتى تم تغيير نمط وأسلوب الجريدة لتصبح جريدة يومية شاملة، ومنذ ذاك الوقت ومستمرة إلى الآن، غير أنها طورت وتطورت كثيرا بما يتلائم ومستجدات العصر والإعلام الجديد.
لقد كان من أسباب هذا النجاح الكبير الذي قاده الأب المؤسس أنه لم يكن رجل حكيم وحصيف وسابق لعصره بسبب ثقافته وفكره واطلاعه وريادته الإعلامية فحسب، وإنما جاء ذلك لما تميز به من منظومة أخلاقية إنسانية فياضة وحبه للعاملين معه والعمل بروح الفريق وارتباطه بمن حوله دون تفرقة، فقد كان "رحمة الله عليه" صاحب مدرسة رائدة في الإدارة والقيادة شعارها " العدل والاعتدال والتوازن"، مدرسة تتخذ من التعاون والتسامح والتواضع شعارا لها، ولذا كان سمحا في تعامله مع جميع العاملين بالمؤسسة من الصغير إلى الكبير، ويميل إلى الاعتدال والعدل والمساواة، ومتواصل مع الجميع يعرف ظروفهم ويقدرها ولا يرد سائل يحتاج إلى المساعدة بسبب ظروف ما - بحسب قول كثير منهم- .
لقد حدثني أحد من عملوا معه شخصيا عن إنسانية "أبوأنيس" رحمه الله عليه وكيف أنه دائما ما كان يسأل عن العاملين معه الصغير قبل الكبير، وضرب هذا الشخص لي مثالا بقصة حدثت معه شخصيا، وهي أنه سافر معه "رحمة الله عليه" في رحلة عمل إلى إحدى الدول الآسيوية، وكانت في ذاك الوقت صعبة جدا عن اليوم، حيث أننا نعلم أنماط المأكل والمشرب فيها صعبة جدا وخاصة عند البحث عن الطعام الحلال أو ما ترتاح له النفس، وجلس هذا الشخص يومين لا يستطيع أن يتناول أي طعام لدرجة أنه تعب جدا، وعرف بذلك المرحوم عيسى الزدجالي فذهب له شخصيا وجلس معه وعرف قصته، فما كان منه إلا أن أخذه في سيارة خاصة وذهب به شخصيا في جولة في عاصمة تلك الدولة، بل وأخذه إلى أشهر المطاعم العربية حتى تأكد أنه تناول الطعام الذي يرتاح له، بل ومن بعدها وحتى انتهاء رحلة العمل كان يحرص على أن يتأكد يوميا من توفير الطعام المناسب والمفضل لهذا الشخص وعلى حسابه طوال هذه الرحلة.
شخصيا عرفته "رحمة الله عليه" منذ فترة بعيدة قبل رحيله، فقد كنت أقابله كثيرا في بعض المناسبات الاقتصادية والدبلوماسية والاجتماعية، حيث كان يشتهر بدائرة العلاقات الواسعة والمباشرة وكان يحرص شخصيا على الحضور بنفسه، وكنت في حينها شابا صغيرا قادم إلى السلطنة حديثا وأعمل مديرا لتحرير جريد "الأسبوع" الصادرة عن مؤسسة القمة للصحافة والنشر ومع صغر سني وأنني وافد جديد إلا أنني كنت كلما قابلت المرحوم عيسى الزدجالي "رحمة الله عليه" كان يبادر في أحيان كثيرة ويأتي شخصيا ليسلم علي ويسألني عن حالي وأحوالي وعن العمل الإعلامي وكيف أراه ويتحدث معي وكأنني إعلامي كبير من دوره وحجمه ويستمع لي بإنصات واحترام كبيرين .. فمثل هذا التواضع الجم والإنسانية الخالصة والفطنة والذكاء الاجتماعي في التعامل مع الجميع كان جزءا وسببا من أسباب تحقيق هذا النجاح.
هذا الشبل من ذاك الأسد
إن رجل وأب بهذه المواصفات بالتأكيد سيخلفه ابناء نجباء وقد كان، فما كان لمجموعة كمسقط للإعلام أن تتطور وتتقدم بل وتسبق الجميع إلا بالفكر والتعلم، وقد شهدت موجات من التطوير والتحديث، غير أننا لو ضربنا المثل بأحدثها وهي موجة التطوير والتحديث على يد (الابن) والرئيس التنفيذي الحالي لمجموعة مسقط للإعلام الأستاذ أحمد عيسى، فقد شهدت المجموعة طفرة عالية من التطوير وبما يتماشى مع تطور الإعلام العالمي، كما قد تم تطوير المجموعة مع الأخذ بكل مقاييس الحداثة والإعلام الجديد، و كل ذلك تم في فترة مبكرة سبقت الأخرين..
فكما سبق الأب المؤسس الجميع بالتركيز على الإعلام الأجنبي وباللغة الإنجليزية وجاءت تايمز أوف عمان وظلت الأولى دائما، جاءت فكرة الاهتمام بالإعلام الجديد من قبل (الابن) الأستاذ أحمد عيسى فعمل على تطوير الجريدتين "تايمز أوف عمان" و "الشبيبة" وكان له السبق قبل قرابة عشر سنوات من خلال التطوير والاهتمام بالإعلام الجديد والتركيز على وسائل التواصل الاجتماعي، - وبكل أسف كان البعض في حينها يضحك ويقول ماذا يفعل هذا- ولكن جاء اليوم فمنذ سنوات ثبت أنه فعلا يمكن أن نطلق عليه مقولة: "هذا الشبل من ذاك الأسد"، وأنه الآخر سبق عصره وأوانه أيضا، فها هي مجموعة مسقط للإعلام المجموعة الإعلامية الأكبر في السلطنة، وهي في الحقيقية التي تمتلك كل الأدوات الإعلامية وتعمل برؤية 360 درجة فهي تملك الإعلام المطبوع والإلكتروني والإذاعي والمرئي، ووسائل التواصل الاجتماعي الناجحة والأقوى وهي التي تصل يوميا إلى 3.6 مليون متابع يوميا لتحصل على حصة من سوق الإعلام العماني تتجاوز 50٪، ولتنال ثقة الجميع وتصبح المجموعة الوحيدة التي تملك كل صنوف وأنواع الإعلام في حين أن الباقين لا يوجد من يملك هذا التنوع، فمن يملك الصحيفة لا يملك الإذاعة، ومن يملك الإذاعة لا يملك الصحافة، ومن يملك الصحف لا يملك حسابات قوية في وسائل التواصل.. وهكذا.
وها هي جريدة "تايمز أوف عمان" تشكل ذراع الإعلام العماني باللغة الإنجليزية وتتربع على قمة ريادة الإعلام العماني اليومي الأجنبي، كما تعد "الشبيبة" الأولى من حيث الانتشار باللغة العربية، ويدعمهما صحيفتين أسبوعيتين هما: "7 أيام" بالعربية و"تي مجازين" بالإنجليزية، وجاءت إذاعة الشبيبة إف إم لتكون الشقيقة الإذاعية لصحيفة الشبيبة، كما جاءت "تي إف إم" كمحطة إذاعية وفضائية مسموعة ومرئية وهي أول محطة إذاعية بهذا الشكل والمستوى والمحتوى في السلطنة، بالإضافة إلى النشر الإلكتروني في جميع وسائل التواصل الاجتماعي ممع جعل المجموعة تتربع على قمة هرم الإعلام العماني.
رحم الله الأب المؤسس واسكنه فسيح جناته في الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.. وها هي سفينة الإعلام في مجموعة مسقط للإعلام تمضي وتسير، لتبدو أنها المجموعة الإعلامية الخاصة القادرة على مواجهة رياح التغيير وتحديات العصر، وهي القادرة على تحقيق أرباح حقيقية.. ولذا ففي حين تترنح سفن الإعلام الخاص الأخرى نراها صامدة تشق طريقها وسط عباب البحار والأمواج والهزات العاتية التي خلفتها أزمات مثل تراجع أسعار النفط العالمية والآثار الاقتصادية لجائحة (كوفيد -19) وغيرها.