بقلم: علي بن راشد المطاعني
في الوقت الذي نتطلع فيه إلى أن تشهد الخدمات الحكومية تطورا يختزل الجهود والوقت الذي تستغرقه المعاملات في الأجهزة الإدارية للدولة، نجد بأن كاتب العدل لا يزال يتمسك بشهادة الشهود لإتمام إصدار صك شرعي أو أي إجراء آخر لتوكيلات، حتى وإن كان الشخص بقرارة نفسه وكامل قواه العقلية يوكل آخر لمتابعة أموره الإدارية وتخليصها من الأجهزة الحكومية أو يفوض أحد أقربائه حتى أبناءه أو يتنازل عن أملاكه أو يهب، إلى غير ذلك، لابد أن يأتي بشهود ليس لهم علاقة بالأشخاص الموكلين أو المتوكلين، ولا لديهم دراية عما يشهدون عليه للأسف، فهم غرباء الوجه واليد واللسان في مفارقة غريبة لا تذكرنا إلا بمسرحية عادل إمام "شاهد ما شايف حاجة" المصرية ذائعة الصيت، فهي أفضل تعبير عن حالة اللا منطق التي نعيشها وفق تلك الإجراءات.
فلا نعرف ما أهمية طلب شهود لأمر ليس لهم علاقة به، وهو أمر مخالف للكتاب والسنة، فقد أقر الشرع شهادة الشهود في حالات معينة وأوضح القصد منها، وهي لا تخرج عن حق الله وحدوده وحق العباد وما يتبع ذلك من معاملات تجارية واجتماعية وشرعية، وقد أوضح العلماء شروط كل نوع من تلك الحقوق، وحرصوا على وضع شروط منضبطة لتحري تلك الشهادة في كل حالة على حدة، أما ربط الشهادة بإجراءات نستطيع أن نثبتها بما نملكه من تقنيات حديثة، تلبي الهدف المنشود وتعد أكثر دقة فما هو إلا تضييع وقت، ولا ندري من المستفيد من ورائه، فالشهود مرحلة لاحقة يحق للقاضي الاستماع لهم إذا لم يكن هناك برهان ملموس، أما في واقعنا الحديث فإننا نملك من المعطيات والأدوات ما يعيننا على مثل تلك المعاملات دون الرجوع لشهادة شهود عند كاتب العدل.
لا أدرى لماذا نسعى إلى اختراع العجلة، فهناك العديد من دول الجوار أدركوا خطورة تلك الشهادات، وعملوا على إيجاد بدائل من واقع عصرنا المتطور لتسهيل عمل كاتب العدل والتوثيق، وتنظيم مهنة كاتب العدل، بعد أن رصدوا استفحال شهادة الزور، فقد تمكنوا من رصد قضايا تبين شهادة البعض لأوراق مكتوبة على معاملات إقرار حالة، على وجه مخالف للحقيقة، أو دون أن يكونوا على علم بحقيقة ما يشهدون عليه، مما دفع المشرع إلى الاستغناء عن الشهود في أكثر من 40 معاملة من معاملات التوثيقات، واستعاض عن شهادة الشهود باعتماد آلية جديدة تعتمد على التقنيات الحديثة، لضمان صحة المعلومات وجَودة إتمام عمليات التصديق ومراقبة نوعيته.
أما التمسك بطرق عفا عليها الزمن، ونراها تخالف جوهر الشرع في تسهيل الإجراءات على الناس، والتمسك بإجراءات نراها تضر أكثر مما تنفع، فشهادة الشهود لها ضوابط لو طبقت شرعا ما قبل شهادة من أحد في عصرنا الحديث، فالشرع يشترط على الشاهد أن يكون مجتنبا للكبائر، وأن يكون غير مصر على القليل من الصغائر، ويكون مأمونا عند الغضب، وغيرها من الشروط التي يجب توافرها، بل تحتاج شهودا لإثباتها، لكننا الآن نمتلك بدلا من تلك الشهادات تقنيات نستطيع من وراء استخدامها تبيان الحقيقة في القضاء الجنائي حتى، فانتشار كاميرات المراقبة له دور فعال لا سيما في الشق الجنائي في تبيان الحقيقة للقاضي، بدلا من الاعتماد على شاهد لا يعبر عن الحقيقة لكنه يراها من مصلحة خاصة، تجعله يتجرد من صفة الشاهد الحيادي الذي ينطق بالحق، ويتحول إلى خصم خطر يناصب العداء ويعين على تضعضع كيان العدل وانهياره.
صحيح أن شهادة الشهود شديدة الأهمية في بعض الأحيان، لكن يجب ضبطها بشكل يتماشى مع معطيات العصر وأدواته، ونستطيع بما نملكه من مقومات تقنية أن نستعيض بها عن شهادات تضر أكثر مما تنفع، وتعطل أمور العباد بدلا من تيسيرها، فمهمة كاتب العدل تفرض عليه الاستعانة بما يحقق غايته من أدوات العصر الحديث، لتسهيل الأمور، وعدم وضع الناس في شهادات لم يعرفوا شيئا عنها، لكنهم بحكم علاقاتهم بالمستفيد من وراء الشهادة يسعون إلى مساندته في إنهاء إجراءاته، وهذا بالتأكيد يضر المجتمع ويعطل مصالحه، التي نرى أنها أولى من التمسك بشكليات زائفة.