بقلم : محمد محمود عثمان
الأسواق العربية التي تسعى إلى التعافي والتنمية الاقتصادية تنجح بأكثر من امتياز في استمرار النقص الشديد في الأيدي العاملة الوطنية الماهرة والمدرَّبة القادرة على المنافسة وعلى تحمّل مسؤوليتها في تلبية احتياجات السوق والمشاركة في عمليات التنمية المستدامة، وجذب المستثمرين ودعم الاستثمارات وتوطين الصناعات الحديثة ،باعتبار أن الأيد العاملة المدربة والرخيصة من أولى المميزات النسبية التي تتميز بها البيئات الاستثمارية الجاذبة ، والتي يسعى إليها المستثمرون من كل صوب ،والتي يجب أن تركز عليها الحكومات التي تعمل على تقدم اقتصادها ، على الرغم من الزيادة الكمية في حجم التعطل عن العمل في المنطقة العربية التي تصل إلى نحو 12.5%،وتراكم أعداد الباحثين عن عمل، والداخلين الجدد سنوياً إلى الأسواق، وكلها تشكل عناصر ضغط مجتمعي، ليس على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بل على كل شركات ومؤسسات القطاع الخاص، لما لها من تأثيرات سلبية اقتصادية وسياسية واجتماعية، قد تصل إلى حد كارثي في صعوبة الحصول على العامل المهني الجيد ، ومن ثم تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ، ولاسيما في حالات التفاعل والتضخيم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي غير المنضبطة في أدائها، باعتبارها قنابل موقوتة قابله للانفجار بدون سابق إنذار،عند المقارنة بحجم الأيد العاملة الأجنبية التي يحتاجها سوق العمل ،الأمر الذي يجعلنا أمام معادلة صعبة متعددة الأطراف، جوهرها هو البحث عن أولويات وآليات المواءمة بين مخرجات التعليم والتدريب التقني والاحتياجات الفعلية لسوق العمل وقدرته على الاستيعاب ، ومن هنا تأتي صعوبتها، ولكن الأصعب أن المشكلة تتراكم عاماً بعد آخر، حتى أنها تزداد تعقيداً مع مرور الوقت في ظل متغيّرات تفرض تأثيراتها السلبية، مثل النظم التعليمية ونقص الأجهزة والمعدات وآليات التدريب المتاحة وإمكانياتها، والاحتياجات المتجددة لسوق العمل والقطاع الخاص، وافتقاد ثقافة العمل المهني التي تحتاج إلى التأصيل في مجتمعاتنا العربية والخليجية تحديداً، وأخطر ما في ذلك هو غياب الرؤية أو الاستيراتيجية لتطوير منظومة التشغيل والتوظيف وعلاقتها بالتعليم التقني والمهني، وعدم وجود الحل أو البدائل التي تساعد صانعي السياسات لتطوير هذه المنظومة فى الدول العربية كافة وبدون استثنناء، التى تعاني من التخمة الشديدة من خريجى الكليات النظرية التي ليس لها مكانا في سوق العمل- وترتفع أصواتها دائما بالحق في طلب التوظيف - ولا يحتاجها القطاع الخاص أو المشروعات الاستثمارية الجديدة التي تشترط مواصفات مهنية في العامل الذي تريده ، ومن هنا تكون بداية الأزمة ،حيث تشهد بعض الأسواق اتجاهين متضادين هما : تزايد عدد العمال الأجانب المستقدمين، وتنامي عدد العاطلين أو الباحثين عن عمل ، نتيجة للخلل في منظومة إدارة التنمية البشرية ، وعدم القدرة على توجيهها وفق الاحتياجات الفعلية للسوق ، وعدم رفده بالأيد العاملة التي تتمتع بدرجة مناسبة من المهارة والمهنية التي يطلبها السوق ، رغم المخصصات والموازنات المالية الضخمة التي تُرصد وتُنفق سنوياً على منظومة التعليم بتركيبتة التقليدية ، الذي يعاني من فجوة سحيقة بين العرض والطلب التي اختل معها التوازن بغياب التواجد الإيجابي للأيد العاملة الوطنية وفي المقابل زيادة حدة أعداد المتعطلين والباحثين عن عمل ، في ظل متغيرات العصر الحديث وتشابكها وسرعة إيقاعها ، الأمر الذي يضع مؤسسات التعليم والتدريب التقنى والمهنى في موقف صعب نظرا لمسؤوليتها أمام نهضة بلادها وطموحات أبنائها، لأنها تجد نفسها في واقع غير مسبوق أمام تحديات جديدة، لا تستطيع الأنماط التقليدية للتعليم أن تواجهها في المسار المهني الصحيح ،إلا أنها نجحت بجدارة في تخريج الباحثين عن عمل ، مما يستوجب البحث عن خطط وآليات لتقليص الهوة بين ما يتم تعليمه والتدريب عليه في مؤسسات التعليم، وبين متطلبات جهات التشغيل والتوظيف والاستخدام في السوق، التي تمثل إشكالية كبرى في المناهج الدراسية وفي إدارة الموارد البشرية وعدم القدرة على استثمارها بشكل جيد ، بعدما فشلنا تماما في الاستفادة من طاقات الشباب التي تهدر من خلال المراحل الدراسة بداية من المرحلة الأولى وحتى الجامعية فيصل عمر المتعلم في المتوسط بين 20 أو 25 عاما بدون إنتاج أو تدريب ويكمل بقية عمره في انتظار الوظيفة -التي لا تسقط عليه من السماء - ثم ينخرط في طوابير الباحثين عن عمل إلى مالا نهاية ! وبذلك يضيع عمرالشباب هدرا ولم نجد الدماء الجديدة التي تضخ في شرايين الاقتصاد ،وخطورة ذلك أن تفقد المجتمعات طاقاتها الفاعلة والمنتجة ، وتظل تدور في حلقة مفرغة حول توطين الوظائف وجعلها الشغل الشاغل للحكومات والأفراد ، على الرغم من أنها ليست المشكلة الأساسية ، لأنها ناتجة عن عدم توفير مشروعات استثمارية اقتصادية أو صناعية جديدة تولد فرص عمل حقيقية ، تمتص الباحثين عن عمل وتقلص من أعداد الباحثين عن عمل، لذلك علينا التركيز على إنشاء الكليات التقنية ومعاهد التدريب الفني والمهني ، وتطوير المناهج الدراسية لتواكب متطلبات المستقبل، والحد من الكليات النظرية - إلا بالقدر الذي يحتاجه سوق العمل من التخصصات النظرية - على أن يواكب ذلك حملة مكثفة لتغيير الثقافة والمفاهيم المجتمعية حول أهمية التعليم التقني والمهني والتدريب في تطوير اقتصاد المعرفة ، وتوفير الوظائف للشباب ،وتعديل الاتجاهات السلبية المتجذرة والمتوارثة لدى أفراد المجتمع تجاه العمل الفني ، وهذا يحتاج إلى دوركبير لوسائل الإعلام والفنون والدراما لترسيخ هذه المفاهيم نحو أهمية التعليم التقني وإكساب المتعلمين المهارات التي تؤهلهم لمواكبة التكنولوجيا الحديثة ، وربطهم مع أسواق العمل ومتطلباتها الديناميكية والتنافسية .