محمد محمود عثمان
تأثرت أسواق العمل كثيرا في العام الفائت إلى درجة الترنح ، نتيجة لعدد من الإجراءات الاضطرارية التي اتخذت في مواجهة تداعيات جائحة الكورونا مثل خفض الإنفاق، تخفيض رواتب فئة كبيرة من العمال والموظفين بنسب تصل إلى50 %، وقف صرف بدل غلاء المعيشة، والحرمان من العلاوات والحوافز رفع ضريبة القيمة المضافة، زيادة رسوم الخدمات وفرض الضرائب ورفع أسعار السلع الأساسية والوقود، إلى جانب التقشُّف في نواحي الإنفاق العامة ،وإجبار بعض الفئات على التقاعد المبكر، وما يتبع ذلك من اقتراض خارجي وداخلي لتغطية الفجوة المالية في الموارد والدخل التي فرضتها ازدواجية المشاكل الناتجة عن كورونا وعن تراجع أسعار النفط ، مما اضطر بعض الدول إلى سحب البليونات من صناديق الثروة السيادية ومن صناديق الاحتياطي العام،وما تبع ذلك من الاستغناء عن أعداد كبيرة من الأيد العاملة الوطنية وتسريح العمالة الأجنبية ،وتفاقم أزمة البطالة ، وإغلاق أبواب الأمل أما الباحثين عمل ،خاصة أن تقرير منظمة العمل الدولية قد حذر من أن الأزمة سوف تلقي بآثار دراماتيكية على القوى العاملة في جميع أنحاء العالم، وإلغاء نحو 200 مليون وظيفة ، من بينها أكثر من 5 ملايين في الدول العربية وحدها ،وهذا مؤشر خطيريلقي بظلالة على مختلف المناشط الاقتصادية والإنتاجية وسوق العقارات ،وتراجع حجم الاستهلاك والطاقة والقدرة الاستهلاكية،وتأثر حركة الطيران والتأثيرالسلبي لذلك على الدورة الاقتصادية ومن ثم على معدلات النمو الاقتصادي ، ولا سيما مع تسرع شركات القطاع الخاص في تسريح مالديها من أيد عاملة مدربة قادرة على العمل والإنتاج ، للتحول من مرحلة الكساد إلى التعافي وإلى مستويات ما قبل كورونا لأن بعض القرارات الإدارية الحكومية غير المدروسة التي قد لا تنظر أبعد من مواقع أقدامها ، قد تتسبب في زلزال في أسوق العمل والمال والاستثمار مما يزيد هذه الأسواق ترنحا خاصة أنه في أوروبا قد فطنوا لذلك مبكرا وحافظوا في أحلك ظروف أزمة كورونا على ما لديهم من قوى عاملة ماهرة استشرافا للمستقبل وأملا في العودة السريعة للتعافي ، لأنها أذا اتخدذت تدابير قصيرة النظر، تفقد من خلالها العديد من الخبرات المدربة على العمل والإنتاج، مثل خفض العمالة أو تسريحها تحت أي مسميات، أواستحداث تشريعات جديدة للضغط على الايد العاملة الوطنية أو الأجنبية للتخلص منها ، وهى القادرة في ظروف كورونا على استمرار التنمية والعمل في المشروعات الاقتصادية الكبرى التي توفر فرص الوظائف الجديدة للباحثين عن العمل وخير مثال في هذا الصدد الرؤية بعيدة النظر لــ” جو كيزر“ رئيس شركة سيمنس الألمانية للصناعات الإلكترونية والهندسية الذي قرر أن الشركة لن تلغي الوظائف التي لديها ،ولم تستغتي عن أي شخص من شركة سيمنس بسبب التقلبات المؤقتة في التوظيف التي حدثت بسبب وباء كورونا “ وهكذا احتفظت الشركة بالخبرات العمالية التى لديها تحسبا من أن تخسر مرتين عنما تفقدهم وعندما تحتاج إليهم في وقت لاحق وتتحمل تكاليف باهظة من أجل ذلك ،وفي ذات الوقت تحافظ على أهم عناصر الإنتاج وهو العنصر البشري من خلال استقرار القوانين التي تنظم سوق العمل وتساعد على تنظيم جذب الاستثمار، لأن عكس ذلك لا يلبي أو يحقق احتياجات المستثمرين ورغبتهم في الحصول على الأيد العاملة المدربة ،التي تمثل ميزة نسبية للعمالة الرخيصة الماهرة ، والتي تؤثر كثيرا في القرار الاستثماري ، خاصة أن القرارات الاستتثمارية قرارات ذات صبغة استراتيجية وأصبح السؤال الأكثر الحاحا في منطقتنا العربية هو: هل ستتمكن الشركات من الاحتفاظ بالأيد العاملة مع الوفاء بالتزاماتها ومنها دفع مستحقات الرواتب ، في ظل استمرار الأزمتين : كورونا وهبوط أسعار النفط ؟وهل سيتمكن القطاع الخاص من تدبير الأيد العاملة الرخيصة والمنتجة في التخصصات الإنتاجية والخدمية التي يحتاجها السوق حتى يعود إلى طبيعته بدلا من التي تم الاستغناء عنها بسبب الكورونا ؟ والإجابة على ذلك ليست سهلة كما يعتقد البعض ، لأننا نحتاج للاحتفاظ بحزمة من القوانين والتشريعات الثابتة وغير القابلة للتغيير أو التعديل لفترات أطول - إلا إذا كانت مطلوبة لتصحيح المسار ومعالجة العيوب بمرونة لا تقودنا إلى الأسواء أو للخلف ، بل لتدفعنا لتحسين بيئة العمل ومناخ الاستثمار،وتطويروتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة ،خاصة أن سوق العمل العربي سوف يظل يعاني لعدة عقود من عزوف الشباب وعدم تقبلهم للعمل في الكثير من المهن البسيطة التي لا يمكن الاستغناء عنها كمهن مساعدة للشركات الكبري ، وسيظل يعاني أيضا من الخلل الكبير في مستوى المهارات التقنية الحديثة للقوى العاملة في مواجهة متطلبات الاستثمارات الجديدة المحلية والأجنبية التي نسعى إليها دعما للاستقرار وجذبا للاستثمار.