إعداد : نصر البوسعيدي
« في قلعة الجلالي كانت الظلمة شديدة ورائحة الاحتضار وصدأ القيود يأكل لحم وحياة بعضهم .. كانت الأصوات مزعجه وتمتمات الفرح غير مفهومة ، وما هي إلا دقائق حتى فُتحت الأبواب، وصوت النهضة ينادي مع السلطان الشاب بعفا الله عما سلف.. ليسطع نور التسامح كالشمس عليهم في كل مكان»..
لم يكن يحيط بالناس سوى ذلك الألم الذي يحاصر البلاد نتيجة الحروب المتواصلة لنيل السلطة بين أبناء الوطن الواحد، فكان الانقسام مجهدا ومدمرا بين طرفين بإمكاني أن أشبههم بالصراع بين المعتدلين والذين يمثلهم السلاطين، والمحافظين الذين يمثلهم مناصرو الإمامة، مما تسبب ذلك بإضعاف موارد وقوة الدولة العمانية رغم أن السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي استطاع بحنكته وقوته وتسامحه ودبلوماسيته من تأسيس إمبراطورية مترامية الأطراف بين آسيا وشرق أفريقيا، بل كان هو السلطان العربي الأول في شبه الجزيرة العربية يمثل كيان امبراطورية ودولة وصلت علاقاتها الدبلوماسية إلى أعلى مستوى مع الدول الصناعية الكبرى، لذا لا غرابة أن نجد في عهده كمثال الوفد العماني وهو يتجول في نيويورك عام 1840م.
بعد وفاة السيد سعيد انقسمت الإمبراطورية العمانية بين مسقط تحت حكم ثويني، وزنجبار تحت حكم ماجد نتيجة صراع الأخوين على السلطة، وبعد نزاعات عدة كادت أن تصل للاشتباك المسلح، اصطلح الطرفان بوجود الإنجليز أكبر حلفاء عمان حتى يومنا هذا وكانت النتيجة أن تم تقسيم الإمبراطورية بين الشقيقين.
كانت عُمان لحظتها في عهد السيد ثويني تتعرض لأخطار عديدة منها صراعه مع شقيقه تركي والذي لم يكن أكثر خطرا من الهجمات النجدية على واحة البريمي، وما لبث أن مات السلطان ثويني نتيجة مقتله على يد ابنه سالم والذي حكم لعامين، ومن ثم اسقطه عمه تركي من دانت له عُمان بعدما استطاع التغلب على خصمه وقريبه عزان بن قيس البوسعيدي الذي التف حوله العلماء وقاموا بمبايعته إماما على عُمان واستمر يحكم حتى قتل في معاركه مع السلطان.
وحينما مات السيد تركي حكم ابنه فيصل الذي عانى كذلك من المشاكل الداخلية مع مناصري الإمامة وتعرض لمحاولة اغتيال في مسقط، بالإضافة إلى الخطر النجدي على عُمان، واستمر الحال على ما هو عليه حتى وفاته ليحكم ابنه تيمور من واجه ذات المشكلات التي عانى منها أهل عُمان كثيرا ، ليتم توقيع معاهدة السيب بين الأطراف المتنازعة عام 1920م وبموجبها تم تقسيم عُمان بين نفوذ السلطان تيمور في مسقط والباطنة وبعض المدن، ونفوذ الإمامة بقيادة الإمام محمد بن عبدالله الخليلي في داخلية عُمان وما حولها، وما لبث أن اعتزل السلطان تيمور الحكم لصالح ابنه سعيد الذي تسلم البلاد وهي تحت خط الفقر والمرض والديون والحروب والأطماع الخارجية.
كانت الأمور هادئة نسبيا وكانت مدن ساحل عُمان المتصالح تحت السيطرة البريطانية بتلك المعاهدات التي حدت من خطر القواسم وهجوم القبائل على بعضها هناك وغيرها مع انحسار خطير للحكم المركزي بقيادة السلطان، في الوقت ذاته وحينما مات الإمام الخليلي عام 1954م، وذهبت السلطة للشيخ غالب الهنائي من تم مبايعته إماما من قبل بعض العلماء بالإضافة إلى حصوله على الدعم الأكبر من السعودية وبعض الدول العربية، تفجرت الأوضاع مرة أخرى نتيجة غضب السلطان سعيد بن تيمور لهذه التحالفات ضده، فأعلن الحرب وتم له الانتصار النهائي في معركة حرب الجبل سنة 1959م والتي كانت نتائجها انسحاب قادة المعارضة إلى الدمام وطرد القوات النجدية من البريمي بدعم من الإنجليز بعدما أعطاهم بدهائه التصريح والإمتيازات للبحث عن البترول في واحة البريمي ليضرب بهم خطر تمدد أطماع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال شركة أرامكو وحلفائهم بالمنطقة.
ما لبث السلطان سعيد بن تيمور أن يوحد عُمان تحت سلطته حتى أصابه اليأس الكبير من دول المنطقة التي يراها أكبر سبب لعدم استقرار البلاد، فقررأن يغلق عُمان نهائيا ومنع سفر العمانيين، وفرض العديد من القيود ليضبط البلاد أمنيا في ظل وضع اقتصادي مترد للغاية وفقر ومرض وجهل وعداوات.
ولا يعلم أكثر المتابعين للشأن العماني لماذا مارس السلطان سعيد هذا التشدد وإهمال التنمية في حكم البلاد، فبعضهم يرجعها لضعف الموارد الاقتصادية في وقت لم يتم استخراج البترول من الأراضي العمانية، وبعضهم يرجح السبب على أن المشكلات المتلاحقة ضد سلطته وبالأخص من أغلب الدول العربية في ظل تلك الأزمات المتلاحقة ومشكلات أعدائه من الجيران تسببت بكل ذلك، فلا مدارس ولا مستشفيات ولا نهضة حقيقية تساهم في رفعة شأن عُمان وتخليصها من ذلك الحال البائس الذي فجر مشكلة جديدة ألا وهي ثورة ظفار عام 1964م هذا العام الذي شهد كذلك المجزرة المؤلمة ضد الوجود العماني في زنجبار وكأن المصائب تلاحق العمانيين في كل مكان!
وكعادة أي ثورة كان الأساس فيها المطالبة بالعدالة الاجتماعية والتخلص من الجهل والفقر في زمن تقدمت فيه دول المنطقة بعدما استفادت من النفط، فقامت الحرب وأصبحت البلاد أكثر ضعفا نتيجة هذا الانقسام الذي كان مدعوما خارجيا ضد السلطان من حاصرته كل الظروف لتجعله مصرا على أسلوب القوة والمواجهة لا غيرها لعلاج هذه المشكلة التي ما لبثت إلا وأن توسعت لتصبح الأفكار الماركسية فكر أغلب الثوار، حيث أصبحت عُمان مركز الصراع الدموي والفكري بين القوى العالمية الكبرى.
أصبح الوضع بائسا وكادت الأمور أن تأخذ منحنى أخطر فسلطة السلطان الذي تعرض لأكثر من محاولة اغتيال مهددة وهو من يمثل اقدم عائلة عريقة حاكمة في الوطن العربي، فاجتمعت الأسرة الحاكمة، وقررت محاولة اقناع السلطان ليتنازل عن الحكم لابنه قابوس خريج كلية سانت هيرست العسكرية وصاحب الخبرة الميدانية في المجال العسكري والدبلوماسي بعدما حرص والده على تعليمه وتأهيله من أجل حكم عُمان مستقبلا.
لم يرغب السلطان سعيد من أن يورث الحكم لابنه قابوس وعمان مثقلة بكل هذه الحروب والمشاكل والتمزق، فنظرة الأباء دوما تتسم بأن الأمور العظيمة والمشاكل العديدة لن يحلها إلا كبار السن بخبرتهم الحياتية لذلك كان يرفض رفضا تاما فكرة التنازل بل كان يقول لكل أقربائه المطالبين بالتغير بأن قابوس غير جاهز لكل ذلك، ولكن الوضع كان أخطر مما يتصوره السلطان، فأصرت العائلة الحاكمة بعد مشاورات عدة بجبره على التنازل بعد خطة محكمة في صلالة تم الاستيلاء فيها على القصر ليصبح السلطان سعيد معزولا عن اتباعه ومحاطا بمطالبات أسرته، فتنازل لابنه قابوس عام 1970م وسافر بعدها مباشرة إلى بريطانيا وهو متردد لا يعلم كيف سيعالج ابنه الشاب كل تلك الأزمات في الوقت الذي كانت فيه المنطقة تغلي من المؤامرات الإستعمارية والحركات اليسارية وتغير الحكام، فتم مثلا في الساحل العماني المتصالح وتحديدا بأبوظبي الإطاحة بالشيخ شخبوط ونفيه وتعيين الشيخ زايد بدلا عنه، وكذلك الحال في قطر حينما تم عزل حمد بن ثاني ليتولى الحكم الشيخ خليفة.
وعلى كل حال حينما وصل الخبر للسلطان قابوس من خلال عائلته بدأ مباشرة بمخاطبة الشعب والإعلان عن العهد الجديد من الإصلاحات والمقاومة مع محاولاته الشديدة لإقناع والده بالبقاء في عُمان ومساعدته بإدارة البلاد وفق نظرته، ولكن مثلما أسلفت فضل السلطان سعيد أن يقضي حياته في بريطانيا حتى وفاته تاركا لابنه التحدي الأكبر لمواجهة الفوضى والانقسام والخطر الشيوعي الصيني والسوفيتي المستفحل بين الثوار الذين حملوا هذه الأيديولوجيات الشاذة عن المجتمع العماني.
كان السلطان قابوس يدرك أن المشكلة كبيرة للغاية، فبدأ أولا ومباشرة بالصفح عن كل المعارضين في حكم والده، وأطلق سراحهم من السجون وخاصة من كان يقبع في قلعة الجلالي لسنوات طويلة من الاعتقال، وطلب منهم البناء والعمل من أجل عُمان ونسيان أسباب معارضة حكم والده في السابق، فكان يردد مذ البداية عبارة « عفا الله عما سلف» ويعاهد شعبه بأن الظلام الذي كان في عُمان سينتهي وبأن معركة الحق ضد الباطل ستنتصر، ليلتف الشعب بحاكمه الشاب الذي اعترف بالمشكلة دون أن يجامل أحدا على حساب وطنه الذي أصبح من أولوياته القصوى لوحدته وبناء نهضة شاملة بدأها بالتسامح لتستمر بإنجازاتها جيل بعد جيل، فحقق منذ الوهلة الأولى انتصارا ساحقا في معركة العقول بمرونته وتسامحه وحكمته، فعاد أغلب المغتربين وأصبحوا معا صفا واحدا يخدمون بقلب متحد سلطنة عُمان بعلمها الجديد المكون من الأبيض والأحمر والأخضر رمزا للوحدة الوطنية حاملا في طياته رمز القوة والكرامة من خلال السيفين والخنجر.
وما هي إلا أيام حتى عمت خطاباته الصادقة في كل أرجاء عُمان وكأنه رحمة الله القادمة لوطن ممزق ومريض ومتعب بالجهل والقيود والفقر، لذا كان السلطان قابوس ملهما بشموليته في الإصلاحات بالتعليم من خلال سرعة بناء المدارس، والصحة ببناء المستشفيات والقضاء على الأوبئة مثل الملاريا، ورصف الطرق والعمل على البنى الأساسية، وجلب الخبرات الخارجية من أجل المساعدة ليرى الشعب خلال سنة واحدة فقط من حكمه إصلاحات كبيرة للغاية واضحة للعيان بعدما كانت البلاد يتفشى فيها الجهل بين أجيال تعاقبت نتيجة ما سبق، بالإضافة إلى كل ذلك فقد بدأ السلطان بشكل عاجل في استثمار الثروات من البترول لدعم ميزانية بلاده والنهوض بها اقتصاديا بالإضافة إلى نجاحه العظيم في استمالة أغلب الثوار إلى صفه وتمكين بعض قياداتهم بمناصب في الحكومة من أجل الهدف الواحد، كما كان مثالا أعلى لقواته المسلحة بقيادته لتلك المعارك ضد الشيوعية وإنهاء تمردهم وإيقاف نزيف الدماء، وكأنه يجمع بين صفات الإمام ناصر بن مرشد اليعربي، وجده الرابع السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي بملاحم وطنية إصلاحية خلدها التاريخ ليصبح اليوم من أعظم السلاطين في الوطن العربي.
لم تقف الدول العربية في البداية مع السلطان قابوس وهو يحاول جاهدا قطع دابر الخطر اليساري في شبه الجزيرة العربية، فوقف معه فقط بشكل عملي شاه إيران وملك الأردن لدعمه أمام تحالفات دولية خطيرة تحاك ضد بلاده كالروس والصينين وبعض الدول الإقليمية رغم محاولات السلطان فتح باب الحوار مع جميع دول العالم لتوضيح القضية العمانية والتحديات التي تواجه أهل عُمان من خلال بعثات المساعي الحميدة التي خصصها لذلك.
في ظفار كانت الأفكار اليسارية تسيطر على قادة المعارضة، وبدأ الناس يذوقون ذرعا من تصرفاتهم وقسوتهم، مقابل ذلك النهج التنويري والتنموي والتسامح العام الذي كان نوره يسطع في عُمان بقيادة جلالته من يجده جنوده بينهم يسألهم عن أحوالهم ويقوي من عزيمتهم ويحارب معهم، حتى استطاع في ميادين المعركة تشكيل مناصرين له في ظفار اعتمد عليهم لدحر الانقسام والقضاء على التمرد، ونجح بشكل باهر في ذلك وبالأخص بعدما أقدم الثوار بالإعدامات الميدانية لكل من أراد أن يعود لعُمان والسلطان تحت ميادين الوحدة الوطنية بعدما انهارت أسباب قيام الثورة أصلا مقابل التنمية الحقيقية والفعلية في نهضة البلاد المتسارعة، وهنا كسب جلالته معركة العقول والإعلام بكل جدارة واستمال عددا كبيرا من المعارضين في اتجاهه مع شعبية تاريخية التفت حوله لأنهم كانوا يشهدون على نبل صدقه وتسامحه واصلاحاته العملية، فلم يكن يقابل السيئة إلا بالإحسان، وبعفو عند المقدرة كانت ولا زالت محفورة بصفحات تاريخ عمان الخالدة.
لم يكتف السلطان قابوس بكل ذلك بل كان يتفقد بين الحين والآخر شعبه بجولات ساميه ليستمع إليهم ويصلهم مع وزرائه لتحقيق مطالبهم وإنهاء معاناتهم، كان قريبا من الجميع ووالد الجميع يتعامل بأبوية لا حد لها مع أبناء وطنه،، كانوا يرونه دون موعد مسبق بزيه العسكري والمدني يتنقل بين القرى والمدارس مخترقا صفوف الطلبة والطالبات يقرأ معهم ويحكي لهم عن عُمان المستقبل وأمله بهم.
رهانه على وعي شعبه لم يخيب الظنون فكل هذا التكاتف من أجل كرامة الإنسان العماني وتراب وطنه حققت له وللجميع نصرا مبينا في ظفار عام 1975م، لتنتهي أسباب الحرب وذلك التمرد ويكسر العمانيون بسلطانهم التمدد اليساري في الخليج العربي وكأنه قدر للسلطان قابوس ودماء شهدائنا الفضل الأعظم في بتر هذا الخطر القادم على شعوب المنطقة، لتعود ظفار بكل فرح تعزف مع أهلها وسلطانها أجمل الملاحم الوطنية بعدما غدت عُمان وللأبد بفضل وعي شبابها على نهج قابوسهم من جنوبها وحتى شمالها تنبض بالوطنية والإخلاص ولقائدها الذي انتصر في معركة العقول والقلوب قبل البنادق والبارود.
المراجع :
1 – الدولة في الفكر الإباضي، د.محمد صابر عرب، الطبعة الأولى – 2012م، دار الشروق – القاهرة.
2 – عُمان فجر جديد المواءمة بين الأصالة والحداثة، ليندا باباس فانش، ترجمة: ناصر بن سعيد الكندي، الناشر: مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية(2016م)، طبع في مؤسسة عُمان للصحافة والنشر والإعلان.