حوبة الدم الظفاري التي قتلت الأمير الهرمزي

مزاج الثلاثاء ١٣/أكتوبر/٢٠٢٠ ٢٠:٣٩ م
حوبة الدم الظفاري التي قتلت الأمير الهرمزي

إعداد: نصر البوسعيدي

"حينما كان عائدا مزهوا بقتله للأبرياء في ظفار ناهبا أموالهم متغطرسا بقوته .. أصبح لا يغفوا ليلته إلا والكوابيس تلاحقه وتؤلم روحه بشدة كرماح غرزها أطفال ظفار في جسده .. أصبح يصرخ كالمجنون تلاحقه الدماء والدعوات في الصحراء حتى أصبح جثة هامدة تنهشها السباع"!!

في ذلك الزمان كان أهل عُمان مختلفين متفرقين في ظل تلك الصراعات على السلطة، وخاصة بعد فتنة عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي وانقسام البلاد بين مؤيد ومعارض في حروب آثارها استمرت لمئات السنين، مما ترتب عليه وجود مملكات عمانية داخل القطر الواحد، كل زعيم يحكم الجزء الذي يسيطر عليه لينطبق علينا فعليا بما يسمى عصر الطوائف.

ومن خلال ما سبق فإن أمر عُمان ذهب لحكم بني نبهان، هذه العائلة التي حكمت أكثر من 400 عام، طمس المؤرخين العمانيين القدامى في كتاباتهم أغلب معالم آثارهم رغم القرون التي حكموا فيها وذلك نتيجة أن أغلب من أرخ لعمان في تلك الفترات من الزمن هم من مناصرين الإمامة والحكم القائم على انتخاب أهل الحل والعقد لاختيار الإمام ليحكم البلاد، لذ ونستطيع أن نقول أن الصراع كان قائما بين حكام النباهنة والسلطة الدينية التي يمثلها أهل الحل والعقد مناصري الإمامة، ولم يبقى لنا من المكتوب شيء كثير إلا الذي دونه أشهر شعراء سلاطين النباهنة وهم الستالي، والكيذاوي حسن بن شوال.

لم يكن الحال في عُمان مستقرا بل كانت الحروب والمناوشات وعبر قرون من الزمن هي السمة الأبرز في عصر الطوائف مثلما اسلفت، واختصارا للأحداث وأبرز الشخصيات المعنية في هذه الصراعات، فأنني سأذهب مباشرة بكم لعصر السلطان كهلان بن عمر بن نبهان النبهاني المعروف بأبو المعالي وتحديدا في القرن السابع الهجري الذي حكم بعد وفاة والده واستقر في داخل عُمان بالعاصمة القديمة نزوى، وقد تعرض هذا السلطان للكثير من الإشكاليات في عهده، ومن أهمها الحروب الأهلية التي ذهب ضحيتها الكثير كهجوم أولاد الريس على نزوى وتدميرها عام 675هـ حينما خرج منها أبو المعالي لمحاربتهم في بهلاء، ولكنهم باغتوه بالهجوم على نزوى ومن ثم عاد إليهم ليقود جيوشه ببسالة ويحرز نصره على الجيش المعارض، وفوق هذا تعرضت عُمان لأطماع خارجية وأصبحت محط أنظار الطامحين للمال والسلطة ومنهم أمير هرمز محمود بن أحمد الكوشي.

وعودة لمملكة هرمز الواقعة في الساحل الفارسي فقد كانت نشطة تجاريا وخاصة بعدما دمر المغول مدينة سيراف، وفي القرن 13م أصبحت هرمز من أهم واشهر المدن في خط التجارة العالمي بسبب موقعها الاستراتيجي، حتى أن الرحال الأوروبي ماركو بولو حينما زارها في القرن 13م كتب وصفه للمدينة بالتالي :

" يفد التجار على هرمز من الهند وسفنهم محملة بالتوابل والأحجار الثمينة والأقمشة الحريرية والعاج، ثم يتولى تجار هرمز بدورهم نقل تلك البضائع إلى أسواق العالم، انها مدينة عظيمة وثمة كثير من المدن والقرى تخضع لها"..
وقد وصفها ابن بطوطة اللواتي كذلك في القرن 14م قائلا:

" هي جزيرة مدينتها تسمى جردن، وأسواقها حافلة، وهي مرسى الهند والسند ومنها تحمل سلع الهند إلى العراق وفارس وخرسان".
وحينما نلاحظ ما دونه الرحالة ماركو بولو فإننا نجد بأنه يقول بأن هرمز تخضع لها مدن كثيرة لسطوتها وقوة حكامها الذين كانوا يحكمون أغلب هذه المدن بالمال والجيوش والمرتزقة المدفوع لهم من كل هذا الثراء، وحينما نتحدث عن ثراء هذه المملكة لنقرأ ما كتبه الأب رانيل الذي زار هرمز في القرن 14م حيث دون التالي :
" أصبحت هرمز عاصمة لإمبراطورية تشمل جزءا كبيرا من بلاد العرب وجزئا آخر من فارس ... فالتجار من جميع أنحاء العالم يتبادلون سلعهم ويرتبون أشغالهم بمنتهى الأدب، والشوارع هنا مغطاة بالحصر ... والبيوت تزينها المزهريات وتحف من الهند والصين، وتجد الزهور والنباتات العطرية متناثرة في كل مكان وماء الشرب يقدم للناس في الساحات العامة".

وبما أن مملكة هرمز هكذا كانت أحوالها فإنه من الطبيعي جدا أن نرى حاكمها محمود الكوشي يفكر جليا بالسيطرة على مدن عمان قاطبة، بعدما أتخذوا من قلهات عاصمة عربية لمملكتهم الهرمزية، والجميع يعلم أن قلهات لعبت دورا كبير في تاريخ خطوط التجارة العالمية منذ ما قبل الميلاد في أكثر مدن عُمان الساحلية شهرة وزارها كذلك الرحالة الإيطالي ماركو بولو في القرن 13م وكذلك ابن بطوطه وغيرهم، فكانت مدينة عالمية تجارية بحق ويسكن فيها من جميع الأجناس القادمين من بعيد من أجل طلب الرزق والتجارة.

وعموما فكر محمود الكوشي بأن يمد سلطته لأهم مدن عُمان، بل كانت أطماعه تتركز على ظفار لشهرتها وثراء منتجاتها من اللبان، فذهب بجيشه إلى قلهات ومنها طلب لقاء السلطان النبهاني أبو المعالي كهلان بن نبهان ليعرض له فكرة التحالف والخضوع له وجمع المال لمصلحة امبراطورية هرمز.

كان السلطان أبو المعالي مشغول بمعاركه في الداخل ضد معارضيه، ولكن ما أن وصله رسول الكوشي لمحاورته في قلهات، جمع كبار أتباعه وتوجه هذا الوفد العماني بقيادته إلى قلهات، وهناك التقى بالأمير المزهو بنفسه محمود الكوشي والذي طلب منه النبهاني أن يجمع له الأموال من شعب عُمان ويبعثها له في كل عام مقابل أن يتوقف من مهاجمة العمانيين.

لقد حاول السلطان أبو المعالي استخدام أقصى الدبلوماسية والهدوء مع الكوشي، فأخبره بأن أهل عُمان أصلا ونتيجة الظروف السياسية والاقتصادية لا يملكون المال الكافي، بل أخبره بأنه لا يملك تحت سيطرته إلا مدن يسيرة من عُمان، وهنا طلب الأمير الهرمزي من أبو المعالي أن يمده بالجيش والقوة والسلاح ليحكم باسمه ويخضع كل مدن عُمان بالجيش المشترك والمدد من هرمز.

رفض السلطان هذا التحالف رغم أنه يملك العديد من الأعداء من أبناء جلدته، ولكنه رفض أن يخون شعبه وبلاده من أجل أمير هرمز بل اعتذر بدبلوماسية احترم فيها خصمه وقوته قائلا له بأن أهل عُمان لا زالوا ضعفاء ولا يستطيعون حسم المعارك لمصلحة هذا التحالف وأنتهى هذا اللقاء بين ملكين بهذه الطريقة، والتي لم ترضي الكوشي والذي بدوره بدأ يعد العدة بعد أيام من ذلك للهجوم على المدن العمانية مستعينا بالمرتزقة وبعض جيوشه التي وصل عددها لخمسة آلاف جندي.

وفعلا تم له الأمر وبدأ يقود جيوشه طمعا في التوسع من أجل بسط نفوذه في عُمان والسيطرة على أهم مدنها التجارية لا سيما الساحلية والتي تقع في خطوط التجارة العالمية، وبعدما تمكن من المدن الساحلية توجه للهجوم على ظفار ووصل إليها بأساطيله ليغزوهم على حين غرة فأرتكب أفظع الجرائم بحق أهلها فقتل الكثير من أهلنا في ظفار ونهبها وأخذ أموال ناسها.

بعد هذه المأساة التي حدثت في ظفار طمع أمير هرمز هذا بالهجوم على المدن الداخلية لعُمان، ويده ملطخة بدماء الأبرياء، فانطلق بجيشه نحو قلهات مرة أخرى ومنها قرر الهجوم على مدن داخلية عُمان ولكنه تاه في إحدى الصحاري وبدأ الزاد معهم في تناقص شديد من طعام ومياه، حاول الرجوع وحاول العثور على الساحل ولكن محاولاتهم جميعا باءت بالفشل، وبدأ الانهيار يعصف بهم ويتساقطون جثث هامدة هلكها الجوع والعطش حتى قيل أن الخمشة آلاف من جيشه ماتوا بهذه الطريقة البشعة وهو معهم وكأن عذاب الصحراء المقدر كان هو السلاح الأكبر الذي انتقم لكل الضحايا الذين سقطوا في ظفار.

وفي نفس هذا التوقيت وبعدما طال مكوث بقية أتباعه وقواتهم في قلهات بانتظار أميرهم وما نهبهم من أموال، استبسل رجال مدينة طيوي وقرروا أن يهجموا بأنفسهم على الجيش الهرمزي المتبقي في قلهات ليحرروا المدينة منهم والقضاء عليهم، وبالفعل التحم الجيشان

وسقط الشهداء العمانيين ولكن الغلبة في الأخير كان لأبناء مدينة طيوي الذين استطاعوا من تطهير قلهات من الغزاة وحرق سفنهم لتنتهي هنا فصل من فصول هجوم ملك هرمز محمود الكوشي على عُمان سنة 1262م ونهايته فيها.

المرجع:
1 – الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين ج2، حميد بن رزيق بن بخيت النخلي العماني، تحقيق أ.د محمد حبيب صالح – د.محمود السليمي، الطبعة الخامسة 2016، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.
2 – مجلة نزوى – مقال / هرمز المملكة التي ابتلعها التاريخ / 1يونيو سنة 1995م.