الجزائر -العمانية
ليست هناك أزقة تتوالد عند عتباتها ومن جدران بيوتها قصص التاريخ مثلما هي الحال التي يشعر بها الإنسان عند تجواله بأزقة القصبة العتيقة، فهي تتحدث بلسان أوجاع وأفراح من مرُّوا على المكان واستوطنوا زواياه ونسجوا حكاياته التي ما تزال تُروى إلى اليوم.
في حيّ القصبة العتيق، لا يمكن إلا أن تسير راجلا، وإن لم تسعفك قدماك، فليس هناك من إمكانية أخرى لقطع تلك الأزقة الضيّقة سوى بقدمين تقويان على التسلُّل عبر التعرُّجات، فالقصبة صُمّمت لتكون مستعصية على الشيخوخة والهرم.
ترتفع بيوت القصبة منذ مئات السنين، وإلى اليوم ما زالت تسكنها عائلات توارثتها أبًا عن جد، باستثناء عدد من العائلات التي تمّ ترحيلها بعدما صارت مساكنها غير صالحة للإقامة، ما استدعى من السلطات المحلية للجزائر العاصمة استرجاعها للقيام بالترميمات اللازمة.
ومع أنّ هذا الحيّ العاصميّ العريق، المصنّف من طرف اليونيسكو ضمن مواقع التراث العالمي، شهد نزوح بعض قاطنيه الأوائل، وشهد أيضًا تحوُّلًا في بعض عاداته وتقاليده التي ظلّت لقرون من خصائصه الأساسية كلباس المرأة التقليدي المسمّى في الدارجة الجزائرية "الحايك" أو الطرابيش الحمراء التي يضعها الشيوخ على رؤوسهم، قد صارت من الماضي، لكنّ حمير القصبة استعصت على التبدُّل والتغيير، فهي إلى اليوم تجوب أزقة القصبة من أجل تنظيفها والمحافظة على بكارتها البيئية.
ومثلما تعود قصّة الإنسان الجزائري مع القصبة إلى مئات السنين، فعلاقة الحمير مع القصبة أيضًا قديمة، وربما يكون الحمار هو الحيوان الوحيد الذي عرف القصبة زقاقا زقاقا، وبيتا بيتا، وناصية ناصية..، ولهذا فإنّ مؤسسة "نات كوم" الساهرة على نظافة الجزائر العاصمة فضّلت، اعترافا بفضل هذا الحيوان، أن تُكلّف أحد الفنانين التشكيليين برسم لوحة فنية عليها حمار وهو يقطع رحلته اليومية لجمع قمامة بيوت هذا الحي العتيق، وقامت بوضعها على أحد جدران أول مكتب يُصادف زوّار هذه المؤسسة، وهو مكتب الاستقبال والتوجيه.
ولأنّ قصة الحمير مع القصبة قديمة، فإنّ العديد من الكتّاب والمصورين الذين مرُّوا على القصبة لم ينسوا تسجيل بعض تفاصيل هذه القصة، سواء بالكلمة أو بالفوتوغراف، ومن هؤلاء الكاتبة الفرنسية لوسيان فافر التي سجّلت في خمسينات القرن الماضي شهادتها بخصوص الموضوع: "حميرٌ تنقل الفضلات وفي عيونها رقة وألمٌ بشريٌّ..، يسكن بعضها القصبة وتنام في أقبية لا ضوء ولا هواء فيها رفقة أصحابها من البشر.."، كما أنّ الباحث أندريه ريمون المعروف بأبحاثه حول المدن الإسلامية أفرد للحمير صفحة ونصف الصفحة في أحد كتبه (1985) للحديث عن هذه الحيوانات ودورها، ليس في قصبة الجزائر العاصمة وحسب، ولكن أيضا في تونس، والقاهرة، وحلب، والقدس ودمشق.
في إسطبل يقع بحيّ مناخ فرنسا أسفل مقبرة القطار بوادي قريش، تقيم عشرات الحمير التي تسهر على نظافة القصبة وتعود ملْكيتها إلى مؤسسة "نات كوم" المشرفة على نظافة الجزائر العاصمة. وبشكل يومي تقوم قطعان الحمير هذه برفقة عمال المؤسسة بجمع القمامة المنزلية لساكني حي القصبة العتيق، وهي عملية تستدعي القوة والدراية التامة بتفاصيل هذه المهمّة نظرا للمشقة التي تتخلّلها، فليس من السهل على هؤلاء العمال أن يجوبوا تلك الأزقة الضيّقة دون مشاكل، خاصة عندما يتعلق الأمر ببعض المضايقات التي يتعرّضون لها ويكون أبطالها بعض الشباب الطائش، إضافة إلى صعوبات تتعلق بالجوانب الصحية نتيجة معالجة العمال لتلك القمامة المنزلية بالأيدي ما يجعل تعرُّضهم لبعض الأمراض واردا. وبحسب ما أورده بعض أولئك العمال فإنّ "مخاطر هذا العمل اليومي لا تنتهي سوى بانتهاء الدوام والعودة إلى البيوت سالمين".
وأغلب العاملين في هذه الوظيفة تتراوح أعمارهم بين منتصف الأربعينات والخمسينات ومستوياتهم التعليمية محدودة، أما عن الأجور التي يتلقونها شهريا مقابل هذا العمل فكثيرا ما كانت سببا في شنّ إضرابات للمطالبة بتحسينها والرفع منها، لهذه الأسباب ربما تبقى وظيفة "عامل نظافة" غير مغرية بالنسبة للكثير من الشباب بالرغم من نسب البطالة المرتفعة لدى الجزائريين، وأغلب الذين يشتغلون بمؤسسة "نات كوم" ينحدرون من المدن الجزائرية الداخلية، ما يعني أنّ شباب العاصمة لا يُفضّلون العمل في مثل هذه الوظائف التي يُنظر إليها بانتقاص وازدراء على ما لها من قيمة في المحافظة على البيئة والمحيط.
يضمُّ إسطبل مؤسسة "نات كوم" ما يناهز 40 حمارا يُشرف على العناية بها عمال بشكل دائم ومستمر، وتؤكد بعض المراجع التاريخية أنّ هذه الحظيرة ضمّت خلال العهد الاستعماري الفرنسي للجزائر ما بين 70 و80 حمارا، أي ضعف العدد الموجود حاليا، وأنّ الفترة الوحيدة التي أُعفيت فيها الحمير من مهام تنظيف حيّ القصبة كانت على عهد جاك شوفاليي الحاكم العام الفرنسي للجزائر العاصمة، حيث استفادت الحمير من فترة استراحة وحُوِّلت إلى مهام أخرى لا تقلُّ عن الأولى مشقة وهي نقل مواد البناء بصفة خاصة بعد أن ابتدع الاحتلال نظام تنظيف للمدينة العتيقة باعتماد أسلوب رشّ أزقتها بأطنان من مياه البحر بواسطة "السَّيَاقين". ولأنّ قصة عشق نشأت بين القصبة وحميرها سرعان ما عادت هذه الحيوانات إلى مهامها في تنظيف حيّ القصبة منتصف سبعينات القرن الماضي وما زالت تقوم بهذا العبء إلى اليوم.
من القصص المثيرة التي ترويها كتب التاريخ عن علاقة القصبة بالحمير، تلك القصة التي تعود وقائعها إلى سنة 1816 عندما أطاح الجيش الانكشاري بالداي عمر باشا وأتى بعلي خوجة مكانه، فسارع هذا الأخير بعد فترة قصيرة إلى نقل مقرّه الرسمي من قصر الجنينة بساحة الشهداء إلى القلعة الحصينة بالباب الجديد كوقاية من الحركة السياسية المعادية له داخل الجيش الذي كان يتربص به عن طريق قياداته التي كانت تحضّر لانقلاب جديد.
وأثناء انتقاله من أسفل القصبة إلى أعلاها، فهم الداي علي خوجة أنّ الاستغناء عن خدمات الحِمار عملية مستحيلة، ويُروى أنّه اعتمد على 400 حمار وبغل لنقل متاعه وأمواله ليلاً وبطريقة سرية من غروب الشمس حتى طلوع الفجر بعد أن فرض حظر التجوال في كامل أنحاء الجزائر العاصمة إلى مدينة سيدي عبد الرحمن. وبعد نجاحه في إفشال محاولة الانقلاب، واصل نقل ما تبقّى من قصر الجنينة من أموال وكنوز "الخَزْنَة القْدِيمَة" إلى "الخَزْنَة الجدِيدَة" بالقَلْعَة، المعروفة اليوم بـ"دار السلطان"، طيلة 36 ليلة على ظهر 300 حمار وبغل، ولو لم يُهَرِّب الدَّاي علي أمواله معه بهذه السرعة، لما نجح في البقاء متربّعا على العرش!