نصر البوسعيدي
« كان دوما يقول لأصحابه في القصر السلطاني عن أمنياته بأن يرى العمانيين يتجولون ويتاجرون في أسواق نيويورك بكل محبة وسلام في الوقت الذي كانت فيه شعوب الخليج لم يتجاوز سقف طموحها التجاري المتواضع إلا في الأراضي المحيطة بها»...
لقد أصبح الطموح العماني في المجال التجاري والسياسي يتعاظم بشكل أكبر بعهد السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي والذي أسس إمبراطورية امتدت حدودها ما بين آسيا وأفريقيا مبنية على التسامح والتجارة والتعايش والدبلوماسية الفذة التي تميز شخصيته القيادية من أثارت إعجاب الجميع.
ومن المهم جدا أن أضع إليكم هنا بعضا ما قاله شهود عيان بعد لقائهم بالسيد سعيد لنعلم تماما كيف فرض احترامه على الجميع بشخصيته وشجاعته ووقاره وذكائه وهو يوازن في علاقاته السياسية بين أغلب دول العالم الكبرى والتي أخذت تلتهم العالم النامي استعماريا..
فقال عنه الكابتن ( جيان ) وهو كابتن في البحرية الفرنسية حينما انتهى من زيارة السيد سعيد في زنجبار عام 1846م:
«من النادر أن يجمع انسان إلى هذا المستوى العالي بين جلالة القوام ونبالة المحيا وكمال لطف الإيماء .. كنت أتأمل هذا الشيخ ذا الوجه الوسيم بكل اهتمام حيث تظهر نبالة العرق والأضرار التي سببتها أهوال أو اضطرابات الحياة السياسية .. انه يمتلك إلى حد كبير نبالة الأحرار ووقارها ويتعامل مع الأجانب بكل لطف ويظهر أمامهم شيئا من الرقة في تصرفاته ويلاحظ أنه يقدرمواقفهم واعتبارهم له».
أما الطبيب الإيطالي ( فنزينزو) والذي أصبح أحد قادة جيوش السيد سعيد ويلقب بالشيخ منصور بعدما عاش في مسقط من 1809 – 1814م واعتقد بأنه أحد جواسيس الحكومة الإيطالية بالمنطقة فقد قال:
« السيد سعيد شاب يافع ذو مظهر مهيب طيب ذو قامة متوسطة وصاحب بشرة متوردة وسلوك مقبول ذو فهم سليم مما يجعله دائما راغبا في الحصول من الأوربيين الذين وصلوا إلى مسقط فيما يختص بالفنون التي لا يستطيع أهالي بلاده تعليمه له، وأن حبه الدائم للعدالة ورأفته الشهيرة كان تأثيرهما لا يدركه رعاياه وحدهم فحسب بل كذلك الأرقاء التابعين له.. ولكي نحاول معرفة إلى أي حد يقوده احساسه الشديد بالالتزامات الأخلاقية، فقد اقترحت له بعض الخطوات التي لا تتفق إلى حد ما مع أخلاقيات السياسة الاوربية فيما عدا ما علمه ميكافيلي.. وقد أدرك السيد سعيد فورا أنها تتناقض مع القرآن وقانون الله .. فصاح بقوة بأنه قد يفقد ملكه وحياته فورا أفضل من أن يكسر أوامر الله وما يمليه عليه ضميره».
ولنرى هنا ما قاله ( روبرتس ) وهو مسؤول البعثة الأمريكية التي أرسلتها الحكومة الأمريكية للسيد سعيد عام 1833م في مسقط حيث كتب :
« إن جميع الأديان في نطاق دولة السلطان لا يتمتعون بالسماح فحسب بل أن صاحب الجلالة يضعهم تحت حمايته .. فالسلطان لطيف يتمتع بسلوك إسلامي لا يتطلب مجرد شجاعة فوق أي تساؤل، كما اتضح في أثناء الحروب حيث أصيب إصابة خطرة وهو يحاول انقاذ جندي انجليزي من جنود المدفعية.. وهو محب صارم للعدالة ويملك النزعة الإنسانية وتحبه الرعية حبا جارفا.. وكان كذلك يتمتع بوجهة نظر ليبرالية عادلة فيما يخص التجارة».
وأختم مقولات أشهر من التقى بالسيد سعيد بن سلطان بما كتبه الدبلوماسي الفرنسي ( جوبينو ) الذي زار السيد في مسقط قبل رحلته الأخيرة لزنجبار ووفاته عام 1856م فقال :
« كان مولانا سعيد بسيطا في ملبسه مثل سائر سكان مسقط .. كان يرتدي جلبابا من القطن وعباءة سوداء من الصوف الرقيق جدا ويضع على رأسه عمامة نسيج حريري موشى بخيط ذو خطوط صغيرة بيضاء وزرقاء وحمراء ... ويمسك السيد سعيد عصا طويلة يتكئ عليها وهو يسير بنبل ووقار.. انه يبدو كبيرا في السن ولحيته ناصعة البياض وعيونه سوداء وديعة ووجهه يعبر عن هدوء كامل وابتسامة ناعمة وروحية بنوع خاص ... إن وجود السيد سعيد يدل لا على انسان عظيم فحسب ولكن على انسان ذي خصال طيبة نادرة».
ووفق كل هذه الصفات التي تميز بها السيد سعيد بن سلطان فقد كان بعمان طموحا للغاية مثلما اسلفنا والذي يشبهه كثيرا اليوم أحد أحفاده وهو جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور في سياسته وتسامحه ومبادئ حكمته ودبلوماسيته التي سار عليها، فكانت آماله بأن يستفيد بأفضل الطرق من الدول المتقدمة حينها وتحديدا بعد الثورة الصناعية التي جعلت هذه الدول تتمدد تجاريا واستعماريا وبالتالي البحث بشده عن حلفاء في أهم موانئ العالم بطرق واتفاقيات تسهل لهم التجارة والإستثمار في أشهر الموانئ العالمية ومنها موانئ الإمبراطورية العمانية.
وحينما حصل الشعب الأمريكي على الاستقلال عام 1776م بدأ حكامهم فعليا بالبحث عن تلك التحالفات التي تضمن لهم منافسة الدول الأخرى في عالم التجارة، ومن الطبيعي جدا أن يصبح السيد سعيد أهم أمير وسلطان عربي يرغبون بصداقته بما أنه يملك أهم الموانئ التي تشرف على طرق تجارة العالم حينها، فبعثوا من أجل ذلك السفينة ( بيكوك ) وقائدها يحمل رسالة من الرئيس الأمريكي يطلب فيها هذه الصداقة والتسهيلات الجمركية للبضائع والتجار الأمريكان في الموانئ العمانية وفق معاهدة يتم الاتفاق عليها وتوقيعها بين الطرفين.
الجدير بالذكر أن السفينة بيكوك كادت ان تغرق بالقرب من مصيرة واضطر الأمريكان إلى تغريغ حمولتها من المدافع في تلك الأزمة، وبالفعل قاموا برمي مدافع السفينة في البحر للنجاة حتى تدخل السيد سعيد بن سلطان وأمر الأسطول العماني بإنقاذ السفينة وسحبها إلى مسقط وإنقاذ جميع ركابها وانتشال المدافع من البحر وإعادتها إليهم مما جعل هذا التصرف النبيل هو حديث الصحافة في الولايات المتحدة الأمريكية. إذن كانت الأجواء مهيئة بين الطرفين، فما لبث أن استلم السيد سعيد رسالة المبعوث الأمريكي عام 1833م، إلا وبادلهم نفس الشعور بأهمية إبرام اتفاقية صداقة وتجارة معهم فرحب بمضمونها، وكتب رسالة وجهها للرئيس الأمريكي كأول وثيقة مدونة في تاريخ عُمان وجهها السلطان إلى الأمريكان فكانت كالتالي :
« بسم الله آمين .. إلى رفيع الشأن العظيم أندرو جاكسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي يضيئ اسمه في جلال على جميع أرجاء العالم فإنني أرجو بكل اخلاص أنه عندما يصل هذ الخطاب يجد صاحب الفخامة رئيس الولايات المتحدة في صحة تامة وإن سعادته في تقدم مستمر ..
ففي يوم موفق وفي ساعة هنيئة تشرفت باستلام رسالة فخامتكم وكل كلمة منها واضحة جلية كما الشمس وقت الظهيرة وكل حرف يتألق في بهاء كما النجوم في السماوات وأن خطاب فخامتكم قد وصلنا عن طريق ممثلكم العالي الشرف والمخلص السفير أدموند روبرتس الذي جعلني سعيدا للغاية بشرح الهدف من وراء بعثته وقد استجبت بكل احترام لرغبات سفيركم المحترم للبت في شأن توقيع معاهدة صداقة وتجارة بين بلدينا والتي سوف أتولى رعايتها بإخلاص وخلفائي من بعدي ما بقى العالم .. ولتعتمد فخامتكم على أن جميع السفن الأمريكية التي تلجأ إلى موانئنا داخل ممتلكاتنا لن تجد أي اختلاف من جهة المعاملة الطيبة بين بلدنا وبلدكم الحسنة الحظ والسعيدة للغاية حيث يفيض الهناء وانني آمل وبحماس أن تعدني صاحب الفخامة الرئيس صديقه الدائم الثابت الحقيقي وانني سأضع رئيس الولايات المتحدة على الدوام في مكانة عزيزة بالقرب من قلبي .. وإن صداقتي لن تعرف قط أي نقصان بل سوف تستمر وتزداد حتى نهاية العالم وإنني أعرض بكل اخلاص وصدق لفخامة الرئيس خدماتي الكاملة المخلصة لكي ننفذ أي رغبة للرئيس في داخل ممتلكاتنا أو في أي ميناء أو مكان حيثما يكون أقل نفوذ ..
من صديقكم العزيز سعيد بن سلطان .. كتب في 22 جمادي الأول عام 1249هـ
( الموافق 7 أكتوبر عام 1833م) في القصر السلطاني بمدينة مسقط».
وفي كل الأحوال ازدهرت بعد هذا التاريخ العلاقات العمانية الأمريكية وخاصة حينما وجدنا إصرار السيد سعيد من تحقيق حلمه بإرسال أول وفد عماني إلى نيويورك عام 1840م عبر السفينة سلطانة بقيادة سفيره أحمد بن النعمان الكعبي والذي من خلال هذه الزيارة حقق العديد من المكاسب كموفد من السلطان في تنمية الروابط المتينة مع الشعب الأمريكي وإدارته.
المرجع :
- سعيد بن سلطان، تأليف رودلف سعيد – رويت ، الطبعة الأولى 1983م ، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.