دومينيك مويسي
باريس ـمَن في أوروبا اليوم لديه رؤية استراتيجية للعالَم تضع في الاعتبار التغيرات الجذرية التي طرأت على النظام العالمي وتسمو فوق البداهة التقليدية البليدة والمريحة؟ على الرغم من خطر اتهامي بالتحيز الوطني، فلا يتبادر إلى ذهني سوى اسم واحد: الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ومع ذلك، يتعين على ماكرون الذي لا تنقصه الجرأة أن يتوخى الحذر خشية أن يعزل نفسه عن حلفاء فرنسا الأوروبيين.
يشيد بعض المراقبين، وأغلبهم في فرنسا، بماكرون، في حين ينتقده كثيرون آخرون في أوروبا والولايات المتحدة. ولكن يبدو أن أنصاره ومنتقديه على حد سواء يستشعرون نوعا من الاستمرارية بين تصريحاته الأخيرة في السياسة الخارجية وفِكر الرئيس الفرنسي السابق شارل ديجول. إذا اعتبرنا أن الديجولية تعني الواقعية، فربما تكون هذه المقارنة مبررة. ولكن إذا كان المصطلح يشير إلى محاولة من جانب فرنسا لأن تنأى بنفسها عن الولايات المتحدة ومشروع التكامل الأوروبي من أجل استعادة بعض الاستقلال والسيادة، فإن ماكرون بهذا لا يُعَد ديجوليا.
في نظر ديجول، كان استعراض القوة الأميركية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين مفرطا ببساطة. أما اليوم فإن الحال هي العكس: إذ يريد ماكرون تنبيه الأوروبيين إلى الخطر المتنامي الذي تفرضه أميركا الضالة المنغلقة على ذاتها. النتيجة الواضحة التي ينبغي للأوروبيين أن يستخلصوها من تحذيرات ماكرون هي أن أوروبا لا يمكنها إلا أن تعتمد على ذاتها.
وهذا يعني أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يطمح إلى الأفضل وأن يبذل المزيد من الجهد، في حين يتوقف عن التوسع في ذات الوقت. لم يكن انتقاد ماكرون مؤخرا لحلف شمال الأطلسي بوصفه بانه «ميت دماغيا»، بعد أن بادر ترمب من جانب واحد إلى إعطاء تركيا (عضو بارز آخر في الحلف) الضوء الأخضر لغزو شمال سوريا، غير دقيق أو مفرطا. بل كان مجرد قراءة محزنة للواقع.
ليست الحقائق موضع ترحيب، وبالتأكيد ليس بالتبعية. وما كان ينبغي لماكرون أن يحط من قدر حلف شمال الأطلسي، حتى ولو كان انتقاده مشروعا، في حين يلاحق أيضا سياسة مشروعة تتمثل في محاولة إعادة ضبط العلاقات مع روسيا.
بعد أقل من عام واحد من الآن، ربما يدير الناخبون الأميركيون أظهرهم لترمب، فتنتهي بذلك انتهاكات إدارته المنظمة للقيم التي كانت تدعم الوحدة بين ضفتي الأطلسي. ولكن حتى لو لم يكن ترمب في السلطة، فإن أميركا من غير المرجح أن تستعيد بشكل كامل اهتمامها بالعالم، وخاصة أوروبا.
وعلى هذا فإن ماكرون ربما يطلق النار على قدمه عندما يدين حلف شمال الأطلسي بهذه القسوة. ومن الواضح ببساطة أن الإساءة لمشاعر الزملاء الأوروبيين الذين ترغب في حشدهم وراء رؤيتك ممارسة هَدّامة. يتعين على ماكرون أن يدرك المفارقة التي ينطوي عليها نهجه: فكلما كان أكثر ذكاء وحيوية وخيالا، كلما أصبح أكثر عُرضة لخطر عزل نفسه. مؤخرا، أَسَرّ لي صديق ألماني خدم سابقا في حكومة المستشارة أنجيلا ميركل بأن ماكرون أصبح مزعجا بشدة في نظر ميركل، وخاصة بسبب الطريقة المتعجرفة التي بدأ يعاملها بها.
الواقع أنها تكاد تشعر بالحنين لسلف ماكرون، فرانسوا أولاند. رغم أن ميركل ربما تشتاق إلى الوقت حين كانت فرنسا تحت حكم رئيس ضعيف وكانت ألمانيا تحت حكم مستشار قوي، فإن العكس يبدو هو الصحيح اليوم. والحق أن ماكرون يشعر بالإحباط ليس فقط بسبب عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترمب على الإطلاق، بل وأيضا بسبب إمكانية التنبؤ بكل تصرفات ميركل أو حتى سلبيتها.
في عالَم يفتقر إلى القيادة الاستراتيجية، تصبح رؤية ماكرون المتماسكة الواسعة الخيال موضع ترحيب. لكن هذه الحال لن تستمر إلا إذا امتنع عن السماح لمزاجه بتوجيه تصرفاته بعيدا عن المنطق. فهو بإهانة حلف شمال الأطلسي يجازف بعزل نفسه عن الحكومات في بروكسل، وبرلين، ووارسو، ولندن، والتي كانت تقليديا من أشد المدافعين عن الحلف. على الرغم من تصور ماكرون المثالي للهيئة التي ينبغي لأوروبا أن تكون عليها ــ قوة مسؤولة، ذات سيادة، ومستقلة ــ فيتعين عليه أن يتوخى الحذر الشديد في سعيه إلى تحقيق ذلك التصور.
على الرغم من كل القيود التي تحيط بها، فإن الدبلوماسية على الطراز القديم لا تخلو أيضا من مزايا ــ وخاصة تأكيدها على الاعتدال، وحسن الإدراك، والبحث عن التسوية. ولا أحد، بما في ذلك ماكرون، يستطيع أن يدفع إلى الأمام بقضية التعددية بالاستعانة بأسلوب يتسم بالأحادية.
مستشار بارز في معهد مونتين في باريس. وهو مؤلف كتاب «الجغرافيا السياسية و انتصار الخوف»