محاولة لاستعادة طفل

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٣١/مارس/٢٠١٦ ٠١:٠٥ ص
محاولة لاستعادة طفل

محمد سيف الرحبي

قبل أيام وصلتني صورة لم أتوقع وجودها في ظل غياب ثقافة الأرشفة عن مؤسساتنا، فكيف بالأفراد، وهم يمضون دون اكتراث بتسجيل اللحظات التي لا تستعاد من حياتهم عبر الصورة التي تبقى، وقد عرفنا أنواعاً من آلات التصوير، لكن القليل بقي من ذلك الإرث (الفوتوغرافي)، وأكثره ذهب مع ريح الإهمال.

الصورة تعود إلى العام الأخير من سبعينيات القرن الماضي، طابور صباحي في مدرستنا (بلال بن رباح) حينما كانت بضع خيام على مبعدة من القرية، حيث السيح الفاصل بينها والقرية المجاورة، وحينما كانت البساطة في ملابسنا وثقافتنا ووعينا بالحياة جميعها.

حينئذ كنت أمضي في الصف الرابع الابتدائي، ولا أكاد أقول كم من السنوات مرت، بل كم من العقود عبرت، أو بالأحرى أشعرها قروناً تدفقت في المسافة الفاصلة بين زمنين، زمن الصورة في ذلك السيح المحاط بخيام وممرات من الحصى قمنا بصفها كأنها الطرقات الواصلة بين صف وصف.. وبين خيمة الأساتذة وبقية خيام المدرسة.
كنا نتحسس التراب والحصى تحت أقدامنا، وحينما يميل المقعد الخشبي بالجالسين عليه نسنده بحصاة من هنا، وأخرى من هناك ليتوازن قدر الإمكان، وعلى زاوية من الخيمة نضع الإناء الفخاري لنشرب منه، ولا بأس إن وجدنا ذات صباح عقربا أو أفعى تتبرد تحته، نقتلها وينتهي الأمر، ويحكي لنا المدرس عن حكايات القاهرة والعادات في الصعيد، كنا صعايدة عمان.. بحسب مقارباته.
استعدت حكاية الصورة حينما كنت في الصف الرابع وأنا أذهب بابني الأصغر إلى مدرسته حيث يبدأ الصف الرابع، لا أتذكر صورة حقيبتي المدرسية لأقارن، ولا بفارق السعر، ولا بفارق بين مدرستين، ولا كل الفوارق بين عصر عشناه حيث عمان من أقصاها إلى أقصاها تكتشف حياة جديدة، وبين عصره الذي جعل العالم كله بين يديه يكاد يعرفه من أقصاه إلى أقصاه.
لم يكن العالم بين أيدينا أكثر من قريتنا، وهناك على البعد تجلس مطرح بجوار البحر نراها كمن يذهب إلى الحلم، راكبا سيارة (بيك أب)، أما هؤلاء المدرسون فيبدون لنا قادمين من كوكب آخر، تقع فيه مصر والأردن وفلسطين، يرتدون البنطلونات والقمصان في ثورة حتى ما عرفناه من ملابس قريتنا التي لم تكن تعرف أي مخلوق من العمال الآسيويين، لكنها اليوم تكاد تعرفهم كل نخلة فيها.
بحثت عن نفسي في تلك الصورة القديمة، فلم أر الطفل جيدا، ربما لأنني لم أعد أتذكره حيث الوجوه كانت تختبئ وراء لا وضوح الصورة وقدمها، كما بحثت عن الطفل في أول يوم دراسي في عامنا هذا، ولم أتبينه جيدا، توارى في داخلي أكثر.. هل أغرقته السنوات وهي تنهال عليه، أم أن الذاكرة بدأت تغرق تحت وطأة رمال الصحراء تزحف بها ريح العمر عاماً إثر عام؟!