نصر البوسعيدي
حينما كان السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي مؤسس الإمبراطورية العمانية يلفظ أنفاسه الأخيرة في عرض البحر بالقرب من زنجبار، كان ابنه السيد برغش الذي يرافقه يفكر ويخطط كيف يقضي على شقيقه ماجد ويستولي على السلطة والحكم في زنجبار!
الهدوء يسود طرقات زنجبار في ظل عاصفة شديدة هوجاء وكان أفراد الأسرة الحاكمة في القصر السلطاني يترقبون من بعيد وصول سيدهم ومؤسس الإمبراطورية العمانية السيد سعيد بن سلطان القادم من مسقط مودعا والدته السيدة غنية بنت سيف البوسعيدية قائلا لها بأنه يشعر بدنو أجله، ليصبح ذلك الوداع والقبلات الأخيرة التي أطلقها على رأس والدته آخر ما حدث بينهما.
وبالقرب من زنجبار في عرض البحر أشتد على السيد سعيد المرض وأصبح وهو محاطا بحاشيته وابنه السيد برغش ينازع الموت حتى الرمق الأخير، حينها كان برغش وبجانبه الجثمان يضرب أخماسه بأسداسه اتجاه حكم زنجبار التي كان فيها أخيه السيد ماجد نائبا عن والده كالعادة بعد وفاة شقيقه السيد خالد، لذلك أمر طاقم السفينة بعدم إرسال أي قارب إلى زنجبار ليُعلم الأسرة بوفاة سيدها لغاية في نفسه أراد من خلالها تطبيق خطته من أجل الوصول إلى كرسي الحكم.
في تلك الأثناء كان السيد ماجد وأخوته وأخواته يترقبون لحظة وصول والدهم العزيز إلى القصر، وقد أخبرهم أحد الصيادين العائدين من عرض البحر برؤيته للسفينة السلطانية القادمة من مسقط، لينطلق السيد ماجد وبرفقته بعض الحشم بقارب يستقبلون من خلالها والدهم وسط العاصفة التي تسببت في انحراف مسارهم تائهين بين الظلام والأمواج المتلاطمة.
ومن ناحية أخرى أمر السيد برغش طاقم السفينة بتغير وجهتها وعدم الرسو في ميناء زنجبار أمام الحشود المنتظرة، بل أمرهم بالتوجه نحو جزيرة (شومبي) التي تبعد عن زنجبار مسافة تقدر بخمسة أميال، ومنها أنزل نعش والده سرا في قارب ليأخذه إلى زنجبار خلسة في جنح الظلام حيث قام بدفنه في المقبرة السلطانية.
أي قدر هذا الذي حرم سيد عمان وزنجبار وإمبراطورفذ كالسيد سعيد بن سلطان من أن يحظى بجنازة مهيبة تحمله لمثواه الأخير في تلك المقبرة السلطانية المهيبة بصمتها والقابعة أمام البحر بالقرب من قصر العجائب!
حاصر السيد برغش القصر ومنع الخروج والدخول إليه وحاول أن ينصب نفسه سلطانا على البلاد قبل عودة أخيه ماجد من عرض البحر في صباح اليوم التالي، ولكنه فشل في ذلك، فأهالي زنجبار كانوا يحبون السيد ماجد كوالده واعتادوا على حكمه وكانوا ينظرون إليه بنظرة احترام لتقديره لهم ومعاملته لجميع أفراد شعبه في زنجبار معاملة الأخ لأخيه، لذلك كان يردد أكابر البلاد مثلما دونها الشيخ سعيد بن علي المغيري مقولة:
" إن السيد سعيد بن سلطان جعل الرعية في منزلة أبنائه، والسيد ماجد جعلهم بمنزلة إخوته، والسيد برغش جعلهم بمنزلة خدمه".
لذلك وحينما عاد السيد ماجد حليف الإنجليز مكملا مسيرة والده في تحالفاته الدولية تم مناداته حاكما على زنجبار والبر الأفريقي الواقع تحت السيادة العمانية، وبدعم من الإنجليز الذين كانوا يتطلعون إلى القضاء على النفوذ الفرنسي في الجزيرة والذين كانوا يستميلون في صفهم بهذا الصراع السيد برغش ضد أخيه ماجد.
كان السيد ماجد حينها شابا لم يتجاوز عمره الـ22 عاما، وهو الابن السادس للسيد سعيد وولد من أمه السيدة سارة، ويعد من السلاطين المعروفين بمعاملته الحسنة جدا لرعيته، كما انه كان من السلاطين الذين تجنبوا البذخ والإسراف طوال فترة حكمه، ولم يكن متعدد الزوجات ولا صاحب إيماء وجواري وله ابنة واحدة فقط أسماها خنفورة.
وفي بداية حكمه بعد وفاة والده مباشرة نشب الصراع على السلطة بينه وبين أخيه السيد ثويني وهو الابن الثالث في العائلة الحاكمة، وقد ولد في مسقط عام 1820م ولم ير زنجبار طوال حياته التي انتهت بمقتله في صحار يوم 28 رمضان من عام 1866م على يد ابنه سالم الطامع كذلك بالسلطة.
كان السيد ثويني في حياته هو النائب الأول عن والده في عُمان، ولذا وبعد وفاة والده مباشرة طالب السيد ثويني وهو الأكبر سنا حقه بحكم الإمبراطورية العمانية بشقيها الآسيوي والأفريقي، لينازع شقيقه ماجد في زنجبار على ذلك ويجهز جيشه لينطلق نحو أفريقيا ويقضي على أخيه لولا تدخل البريطانيين وإيقافهم لتحركات جيش ثويني من أجل الصلح، لتنتهي مأساة هذا الصراع بتقسيم الإمبراطوريةالعمانية عام 1857م، بعدما تم اعتماد اللورد كنج في الصلح والتسوية من قبل الشقيقين ليصبح ثويني حاكما على عُمان، وماجد حاكما على زنجبار مع دفعه مبلغ سنويا لشقيقه ثويني يقدر بـ40 ألف ريال.
ولم ينتهي الحال عند ذلك بل أصبح العداء والحقد مستعربين الشقيقين ومعهم بقية الاشقاء وبعض أخواتهم للنيل من بعضهم، فترى السيد ثويني يزرع الفتن لأخيه ماجد في زنجبار ويشجع برغش على الانقلاب، وماجد يدعم في عمان السيد تركي ضد أخيه ثويني ويشجعه على الانقلاب، لتتشتت العائلة الحاكمة في صراعات مريرة أهمل فيها الأخوة أخواتهم، لتهرب مثلا السيدة سالمة شقيقتهم مع أحد التجار الألمان إلى ألمانيا لتتزوجه وتعتنق المسيحية بعدما عاشت في قصرها بزنجبار وحيدة وهي صغيرة بالسن في عز مراهقتها بعد وفاة والدها دون أي رعاية تذكر من قبل أشقاء كانت صراعتهم على السلطة تزداد شراسة يوما بعد يوم.
وعطفا على ما سبق وحينما تكسرت آمال السيد برغش في النيل من أخيه والانفراد بالحكم، أخذ يحيك الدسائس ضده لمحاولة اغتياله مع دعم أخيه ثويني له مثلما يقال بالمال والرجال، مع تقرب برغش من الفرنسيين للحصول على دعمهم ضد أخيه ماجد وحلفائه الإنجليز الذي كانوا يطلبون من ماجد دوما الحد من خطورة تمرد شقيقه الذي تحصن برفقة أتباعه في مزرعة أسماها مزرعة مارسيليا بعدما أهدى ملك فرنسا للسيد برغش هدية ثمينة بغرض التقارب وتنفيذ المصالح، ومن هنا بدأت المؤامرة بجمع المال والأسلحة والمتمردين ومحاولة اغتيال السيد ماجد برشوة أحد جنوده لتنفيذ جريمة القتل التي فشلت وتم الكشف عنها في عام 1859م.
ولذات السبب لم يتوانى السيد ماجد من جمع مناصريه الذين يقدرون بخمسة آلاف رجل بدعم من البوارج الحربية الثلاثة (شاه علم – بيد متيس – إفريقيا) مدعوما بمدافع حلفائه الإنجليزبالتوجه إلى مزرعة مارسيليا والقضاء على التمرد الحاصل في زنجبار، لتتم المعركة تحت قصف مدفعي كثيف بين الشقيقين وتنتهي بمقتل أكثر من 40 رجلا من أتباع برغش، وهروبه في جنح الظلام إلى أحد القصور السلطانية التي تم محاصرتها ليستسلم بعدها لشقيقه ماجد الذي عفى عنه على شريطة أن يغادر زنجبار إلى منفاه بالهند بالبارجة البريطانية (إس)، ويقسم يمينا على القرآن الكريم بعدم إثارة الفوضى ضد حكم أخيه وتأليب المتمردين عليه وفق شروط السيد ماجد والذي سجل انتصارا برفقة الإنجليز على برغش وثويني والنفوذ الفرنسي، وسجن قادة التمرد كالشيخ عبدالله بن سالم البرواني الذي مات في سجنه والشيخ محمد بن ناصر البرواني والذي كاد أن يغتال السيد ماجد ولكنه فشل وتم اعتقاله وإطلاق سراحه فيما بعد بضمانة المشايخ والأعيان الذين كتبوا معاهدة صلح بينه وبين سلطان زنجبار كانت نصها باختصار بعد البسملة كالآتي:
"أقر محمد بن ناصر بن عيسى البرواني أن المشايخ حسين بن محمد وهاشل بن سويلم ومحمد بن سالم وعبدالله بن عامر وساعد بن مسعود وعلي بن عيسى الحارثيين قد ضمنوا عنه لمولانا المعتضد بالله حين أخرجوه من الحبس والقيد في لاموه ألا يسافر عن بلد زنجبار... وأقر محمد بن ناصر أنه إن خلف أمر مولانا المعظم ماجد بن سعيد وخالف الجماعة المذكورين فحاله وماله هدر إقرار منه لهم بذلك..".
وبذلك استطاع السيد ماجد فعليا من تثبيت حكمه، مع الملاحظة بأنه كان مسالما مع معارضيه خاصة بعدما ألقى القبض عليهم رغم محاولاتهم للانقلابية ضده، ليتفرغ بعدها لأمور البلاد وشعبه في زنجبار والبر الأفريقي، فبدأ بعمل التنظيمات الإدارية لحكومته وتنمية مصادر البلاد وتسهيل التجارة بينه وبين دول أوروبا بتخفيض الرسوم الجمركية، كما انه توجه لتنمية مدينة ( مززيما) في تنزانيا وهو من أطلق عليها اسم (دار السلام) لتبقى حتى يومنا هذا حاملة هذا الاسم العالق في ذاكرة تاريخ السيادة العمانية في تلك الأنحاء حتى العام 1964م هذا العام الذي شهد كارثة المذابح العرقية التي تعرض لها العمانيون والعرب بيد قادة الغزو التنجانيقي ليسقط معه الحكم العماني العربي في زنجبار التي غادرها سلطانها العماني العربي الأخير جمشيد بن عبدالله بن خليفة بن حارب بن ثويني البوسعيدي إلى إنجلترا.
كما أن السيد ماجد كان أول من أمر بالتدريب الانتظامي لجيش زنجبار بالشكل الحديث وكان أكثرهم من العجم والبلوش، وقد أصدر عدة أوامر كالمراسيم السلطانية بلغة عصرنذكر منها كالتالي لنلاحظ كيف كان تفكيره وسياسته مع الرعية:
- كل يوم يحكم واحد من القضاة تحت الكوت، من الساعة الأولى إلى الساعة الثالثة، ويساوي في أحكامه بين القوي والضعيف والدنيء والشريف ويحكم بما أنزل الله في كتابه، ومن يفعل غير ذلك فقد باء بغضبه ووجب أدبه.
- ليس لأحد من الشيوبة والشيوخ أن يتعدى على صاحب أو يسعى في تفسيد ربعه بوجه من الوجوه الكلية ومن فعل ذلك فقد باء بغضبه ووجب أدبه.
- إن محبنا الجمادار هو القائم من طرفنا بالكوت وقد أمرنا أن ينظر إلى جميع الرعية بعين الشفقة والرأفة عليهم وأن يسايرهم بالإحسان التام مع المراعاة والإكرام وإن فعل الجمادار بخلاف ما أمرنا وذكرنا وجب أدبه وحان وقت عزله.
- إننا أقمنا محبنا الأكرم خميس بن كومبو( زعيم الطوائف التسع) شيخا في ممباسة عوض حياة الشيخ محمد بن خميس فلا بد عليه ولا يعترض على شخصه وإن فعل أحد في الذي أمر به ليلومن نفسه.
وهذه أمثلة بسيطة لبعض أوامر السيد ماجد والتي تلاحظون من خلالها تركيزه على المساواة بين الجميع والعمل على إقامة العدل بين رعيته دون محاباة أحد، كما أن أسلوبه من خلال أوامره أو مراسيمه كانت ما بين الرأفة والشدة، فهو يقدم الرأفة قبل كل شيء وهذه أطباعه طوال فترة حكمه والتي لم تدم طويلا حيث مات وهو شابا لم يتجاوز الـ37 من عمره في عام 1870م، بعد أن عانى في بدايات حكمه من صراع أشقائه على الحكم مثلما ذكرنا أعلاه، ليشهد عصره ذلك التحول الخطير في انقسام الإمبراطورية العمانية التي عمل على تأسيسها جاهدا والدهم السيد سعيد بن سلطان رحمهم الله أجمعين، لنأخذ في الأخير من خلال كل ما ورد العبرة جميعا في أن ضعفنا تاريخيا يكمن في الصراع المرير على السلطة والأطماع التي تحيط بها ولو كان ذلك نابع من قبل الاشقاء أنفسهم، ليستغلها ضعاف النفوس والمتكسبين ومرضى التدخلات الخارجية في زمن أصبحت فيه الوحدة الوطنية بالوعي والتعايش والعدالة مع التفاهم الكبير بين أفراد الأسرة الحاكمة أساس القوة اتجاه أي خطر يهدد البلاد.
المراجع:
1- جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار، تأليف الشيخ سعيد بن علي المغيري، تحقيق محمد بن علي الصليبي، مراجعة د. سليمان بن عمير المحذوري، الطبعة الخامسة2017م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.
2- البوسعيديون حكام زنجبار، تأليف الشيخ عبدالله بن صالح الفارسي(قاضي قضاة كينيا)، ترجمة: محمد أمين عبدالله، الطبعة الخامسة 2015م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.
3- مذكرات أميرة عربية، بقلم السيدة سالمة بنت السيد سعيد بن سلطان، ترجمة عبدالمجيد حسيب القيسي، مراجعة إسماعيل بن أحمد الزدجالي، الطبعة العاشرة 2016م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.