أحمد المرشد
نتواصل اليوم مجدداً مع عالم الطرب، وتحديداً مع الملحن والمطرب سيد مكاوي آخر شيوخ الطرب، نعم للطرب شيوخ، ففي مصر يلقبون سيد درويش بـ»الشيخ» لأنه شيخ الملحنين والمطورين في الموسيقى العربية ويعد من باعثيها في العصر الحديث، وعرفنا الشيخ سلامة حجازي وزكريا أحمد وعبده الحامولي وغيرهم من المبدعين المجددين، وإذا كان معظم هؤلاء قد غيبهم التاريخ اللهم إلا الدارسون فإن سيد مكاوي بطلنا اليوم لا يزال حديث الموسيقيين والمهتمين بهذا العالم لأنه لحن وغنى وجدد وأبدع فعاشت أعماله خالدة، ويكفيه فخراً على سبيل المثال تلحينه لأوبريت «الليلة الكبيرة» للشاعر المبدع صلاح جاهين صديقه المقرب واللذين تعاونا في إبداع أكثر من عملي فني، أما العمل الثاني فهو «المسحراتي» الذي دخل به كل بيت مصري ويذاع في رمضان حتى يومنا هذا رغم وفاته قبل 11 عاماً تقريباً.. فقد تفوق سيد مكاوي على كل ملحني جيله في هذا العمل السنوي «المسحراتي» من كلمات فؤاد حداد، ليدخل به كل بيت بمصر في رمضان ليكون وجبة دسمة قبل وجبة السحور الحقيقية، ويقول فيه:» قالوا في الأمثال الرِجل تدب مطرح ما تحب..وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جواّل.. حبيب كما العاشق ليالي طوال.. وكل شبر وحتة في بلدي حتة من كبدي حتة من الموال».
ولعلي أنقل هنا إعجابي بما سطرته بكلماتها الأديبة والكاتبة المصرية سناء البيسي عن سيد مكاوي لتقول عنه إن موسيقاه جعلت الخشب يرقص وهذا مجازاً عن أوبريت «الليلة الكبيرة» الذي يعرض حتى يومنا هذا في مسارح الأطفال في مصر وكل قصورها الثقافية، فهذا الأوبريت كان بمثابة المفتاح السحري لسيد مكاوي لاقتحام عالم الشهرة والمجد، ولعلنا نقول إن موسيقاه في الليلة الكبيرة انطقت العرائس حتى يكاد المشاهد يشعر بالحياة تدب فيهم وهم يتحركون على المسرح بفعل روعة اللحن. وبعيدا عن طفولة سيد مكاوي البائسة حيث أصيب بالعمي في عامه الثاني بسبب فقر عائلته وعدم قدرتها على عرضه على طبيب متخصص ليفقد بصره وهو لا يزال يحبو، فهو لم ييأس ويتذكر طفولته الكئيبة بل تجاوز كل هذا التاريخ ليدندن بعوده أعذب الألحان وأسهلها على الأذن حتى أنه كان يرفض تلحين أو غناء الأغاني الحزينة، فسمته الشخصية كانت خفة الدم وسرعة البديهة، ففي يوم تأخر على سيدة الغناء العربي أم كلثوم حيث كانت تستعد لغناء «يامسهرني.. ماخطرتش على بالك يوم تسأل عني وعينيه مجافيها النوم» من تلحينه وعندما أحس بحرج من تأخيره وحضور كل أعضاء الفرقة الموسيقية قال لها: إنه تأخر بسبب أنه كان يقود السيارة بنفسه فما كان منها إلا أن ضحكت وذهب غضبها ليبدآ معا التدريب على اللحن الجديد. فهكذا كان سيد مكاوي الذي لم يمنعه فقدان بصره من قيادة دراجة بخارية ذات يوم وهو ما فعله الفنان محمود عبد العزيز في فيلم «الكيت كات» عندما قاد دراجة بخارية في الحارة ليجري الجميع من أمامه، كما لم يتوان سيد مكاوي عن قيادة «العجلة» في حارته وهو صغير ولم يهتم بإصابته أو تعرضه لجروح فالمهم عنده أن يعيش كما يعيش المبصرون.
عرف الوسط الفني في مصر سيد مكاوي بأنه فنان صاحب «مزاج عالٍ» يعيش مع مجموعة الحرافيش المكونة من نجيب محفوظ والفنان أحمد مظهر وغيرهم، وكانت موسيقاه بعيدة عن الشجن والأحزان كما ذكرنا، فهو إنسان دمه خفيف بطبعه وقد انعكس هذا على ألحانه العبقرية، ليخرج بأنغام تطير بخيال المستمعين الى عالم أكثر عذوبة ونعومة، أنغام وصفوها بأنها «ريش النعام» ليقطف من كل بستان زهرة ومن كل ثغر قبلة.. اشتهرت موسيقى سيد مكاوي بنغم شرقي أصيل فلم يعتمد على الآلات الحديثة وإنما كان مثل ملهمه سيد درويش غارقا في مصريته لتكون الحارة أساس عمله، خاصة وأنه تعلم كثيرا من عمله منشدا دينيا في طفولته ومؤذنا لأحد مساجد منطقته الشعبية في قلب السيدة زينب بالقاهرة فعرف كيف يخاطب آذان المصريين والعرب بألحان تفوق الخيال..لتغني له ليلى مراد «حكايتنا إحنا الاتنين»، ونجاة «تفرق كتير»، وفايزة «مش كتير على قلبي»، وشادية «همس الحب»، وهدى سلطان «دعاء رمضان»، وشهرزاد «غيرك انت مافيش»، وعبدالمطلب « اسأل مرة عليّ قل لي قساوتك ليه أنا أفديك بعنيّه وأكثر من كده إيه». واعتقد أن معظم جيلي يحفظ لمكاوي أغنيته لشريفة فاضل «مبروك عليك يا معجباني يا غالي عروستك الحلوة قمر بيلالي»، وكان لصباح أيضا نصيبا من موسيقاه فغنت له « أنا هنا يا ابن الحلال لا عايزة جاه ولا كُتر مال»، كما غنى هو لنفسه «من يومنا واللـه وقلوبنا كويسة وبقدم أحلى فرحة ومعاها ميت مِسا ياليل طوّل شوية ع الصحبة الحلوة دية ده الغالى علينا غالى ولا عُمره حيتنسى»، كما أبدعنا بموسيقاه وصوته بأغنية «ماتفوتنيش أنا وحدى أفضل أحايل فيك ماتخليش الدنيا تلعب بيّ وبيك خللي شوية عليّ وشوية عليك.. ده أنا ليلة إمبارح ماجاليش نوم واحنا لسّه في أول يوم.. قبل ما ترميني في بحورك.. مش كنت تعلمني».
ولم يبتعد سيد مكاوي عن عالم الشباب فكان قريبا من على الحجار في «الرباعيات»، ليعود الى اللون الشعبي الذي يهواه مع أحمد عدوية في «سيب وأنا سيب».. وبما أنه فنان متعدد المواهب فكانت وردة على موعد مع موسيقاه في «أوقاتي بتحلو معاك» التي لحنها في البداية الى أم كلثوم التي لم يمهلها القدر لتؤديها. كما كان لوردة نصيبا أن تغني له «قال إيه بيسألوني عنك يا نور عيوني».
لم يكن سيد مكاوي فنانا غنيا ومع ذلك رفض اعتزال الغناء والتلحين مقابل شيك على بياض وإعلانه أن الفن حرام، كما رفض الغناء في إسرائيل مقابل مليون دولار حتى وإن كان موافقا على معاهدة السلام التي وقعها أنور السادات. رحم الله سيد مكاوي صاحب النغم العربي الأصيل الذي علم نفسه بنفسه العزف على العود حتى أنه فاق أساتذة معهد الموسيقي الذين رفضوه طالبا لأنه أكثر موهبة منهم وأن مكانه الطبيعي هو الأستاذ وليس الطالب، واستطاع بجهده أن يحجز لنفسه مكانا خالدا مع أساطين الموسيقي أمثال رياض السنباطي وأحمد صدقي ومحمد عبد الوهاب والقصبجي وبليغ حمدي وغيرهم.
لكم كنت أتمنى أن يكون سيد مكاوي بيننا اليوم ليلحن الكلمات التالية لتكون عبرة للجميع وتذكار عن الأصل والطيبة.
كاتب ومحلل سياسي بحريني