مخاطر التضخم في أمريكا

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٥/أكتوبر/٢٠١٨ ٠٣:٤٢ ص
مخاطر التضخم في أمريكا

ستيفن س. روتش

كان ذلك من المحتم أن يحدث. فالآن أصبحت دورة ارتفاع أخرى لمعدل التضخم في الولايات المتحدة قاب قوسين أو أدنى. فمند فترة التراجع الكبير في معدل التضخم في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، عندما هبطت الزيادة السنوية في مؤشر أسعار المستهلك من 14.7% في مارس 1980 إلى 2.4% في يوليو 1983، ظل التضخم في عموم الأمر محصورا في نطاق ضيق نسبيا بين 1% إلى 5% طوال ربع قرن من الزمن. وعندما انخفض النشاط الاقتصادي، انزلق التضخم إلى الحد الأدنى لهذا النطاق، وعندما استرد قوته في أواخر الثمانينيات وأواخر التسعينيات ثم في سنوات ما قبل الأزمة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ارتفع إلى الطرف الأعلى. وهذه هي الحال اليوم.

الواقع أن الخطر العالمي الذي يواجه التضخم في الولايات المتحدة لا يعكس تحسنا دوريا في الاقتصاد العالمي فحسب، بل وأيضا احتكاكات تجارية متصاعدة وتشكل تهديدا لاستقرار سلاسل القيمة العالمية، أو سلاسل العرض العالمية. مع تزايد أهمية سلاسل القيمة العالمية بمرور الوقت، اكتسب تدويل التضخم أيضا أهمية متزايدة. وبالمصطلح الاقتصادي، يعني هذا توسيع نطاق تقييم التضخم من التركيز على «فجوات الناتج» المحلية ــ الفارق بين الناتج المحلي الإجمالي الفعلي والناتج المحلي الإجمالي الممكن (أو التشغيل الكامل للعمالة) إلى فجوة الناتج العالمي. في الوقت الحالي، ربما نشهد نوعين من الاضطرابات الرئيسية التي تربك سلاسل القيمة العالمية والتي من المرجح أن تخلف تأثيرا ملموسا على تدويل التضخم في الولايات المتحدة. فأولا، هناك الحرب التجارية التي تشنها إدارة ترامب على الصين. تستهدف الموجات الأولية من التعريفات الأمريكية على الواردات الصينية في الأساس السلع الوسيطة التي تعالج بواسطة سلاسل القيمة العالمية المتركزة في الصين والتي تتسم بانخفاض التكلفة. وهذه التعريفات كفيلة برفع أسعار نحو نصف الواردات من السلع الصينية، التي بلغ مجموعها نحو 506 مليار دولار في العام 2017، بنحو 10 % اليوم وحوالي 25 % في العام 2019.

ولابد أن تخلف إعادة صياغة اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية مؤخرا تأثيرا على خفض التضخم الذي تستحثه سلاسل القيمة العالمية. وفي ظل متطلباتها الأكثر صرامة في ما يتصل بالمحتوى المحلي والحد الأدنى للأجور، تضخ اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا ضغوطا جديدة خاصة بالتكلفة إلى سلاسل القيمة العالمية التي لعبت دورا مهما في إنشاء منصة تامة التكامل لإنتاج السيارات في أمريكا الشمالية على مدار ربع القرن الأخير. ربما لم تكن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية مثالية، ولكن في ظل اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا تختلف حسابات التكلفة للمركبات، التي تمثل 3.7% من البنود المدرجة في مؤشر أسعار المستهلك في الولايات المتحدة.
في حين تعكس هذه السلالة الجديدة من الضغوط العالمية على التضخم في الولايات المتحدة تأثير السياسات التجارية العدوانية على سلاسل القيمة العالمية، فإن الضغوط المحلية تنبع من مصدر أكثر ألفة: سوق العمل الشديدة الإحكام. في سبتمبر، انخفض معدل الباحثين عن عمل إلى 3.7 %، وهو أدنى مستوى له منذ ديسمبر1969. الواقع أن معدلات الباحثين عن عمل الأقل من 4 % أصبحت نادرة للغاية في الولايات المتحدة. صحيح أن هذا الوضع اختلف لفترة وجيزة في العام 2000، عندما ظل التضخم في عموم الأمر تحت السيطرة، ولفترة سابقة أطول في أواخر ستينيات القرن العشرين، والتي مهدت الساحة لأزمة التضخم العظيم في أواخر السبعينيات.
يفرض إحكام سوق العمل في الولايات المتحدة حاليا إشكالية لسببين. الأول يتلخص في الزيادة الناشئة في الضغوط المرتبطة بالأجور التي ظلت في سبات لفترة طويلة. فالآن يسجل متوسط الأجر المكتسب عن الساعة زيادة بنحو 2.8 % عن مستوى العام السابق، وهذا يعزز التسارع الذي بدأ في العام 2015، وهو أعلى كثيرا من المتوسط المتواضع في فترة ما بعد الأزمة الذي بلغ 2 % من العام 2010 إلى 2014. فضلا عن ذلك، هناك من العلامات ما يشير إلى أن مكاسب الأجور بدأت تتوسع الآن، مع ميل الميزان بعيدا عن الصناعات حيث تضخم الأجور منخفض مثل الصناعات التحويلية، والرعاية الصحية، والتعليم، ونحو صناعات حيث تضخم الأجور أعلى مثل التمويل، وقطاع المعلومات، والخدمات المهنية والتجارية.
الاستنتاج الثاني الذي يمكن استخلاصه من سوق العمل الشديدة الإحكام في الولايات المتحدة هو أن تضخم الأجور المتزايد الارتفاع اليوم سوف يخفف بالاستعانة بتعويض أصغر حجما من سلسلة القيمة العالمية، على النقيض من فترات البحث عن عمل المنخفضة الفائتة عندما كانت ضغوط الأجور المحلية مقيدة بفعل سلاسل القيمة العالمية. وفي غياب تسارع من غير المحتمل أن يحدث في الإنتاجية، فإن التقاء هاتين القوتين ــ سوق العمل المحلية المحكمة والضغوط العالمية الجديدة ــ هو الذي ينذر بالمتاعب على جبهة التضخم في الولايات المتحدة.ولا تخلو هذه النتيجة من عواقب مهمة وتستوجب العمل العاجل من قِبَل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
وقد يعني هذا أن الاحتياطي الفيدرالي يجب أن يفكر في تشديد السياسة النقدية بما يتجاوز إلى حد كبير ما يسمى منطقة التطبيع المريحة التي تعمل الأسواق المالية حاليا على تخفيضها. وعلى النقيض من رئيس معين يعشق توبيخ بنك الاحتياطي الفيدرالي، فأنا شخصيا لا أستطيع أن أصف هذا بأنه خاتمة جنونية.

عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، ورئيس مورجان ستانلي آسيا الأسبق