مأساة مطربة الحي..

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٦/سبتمبر/٢٠١٨ ٠٣:٠٢ ص
مأساة مطربة الحي..

د.لميس ضيف

الواقعة التي سأرويها هنا سمعتها بلسان أحد أبطالها، وهو أستاذ جامعي مصري متمرس درسني في جامعة الكويت. إذ أوكلت الحكومة المصرية في العام 1992 مشروعاً لتصميم حملات إعلامية تحض النساء على تحديد النسل في الصعيد لشركة عريقة تضم خبرات تمرست في الداخل والخارج. وكان محدثنا الدكتور محمد رفاعه هو أحد القائمين على تصميم الحملة التي تعتبر واحدة من أجيال من الحملات المشابهة التي أطلقت على مدار عقود في بلد تفجرت أعداد السكان فيه لتصل لـ100 مليون على أقل تقدير..
"كان المشروع سهلا والفكرة لدينا واضحة -يقول الدكتور- لكن الحملة فشلت فشلا ذريعا لسبب لم ندركه، لم تستعن نساء بالمستوصفات ولم تصرف حبوب لمنع الحمل وبدا وكأن جهودنا قد ذهبت سدى" هكذا عبر الدكتور عن الخيبة التي أصابتهم بعد أشهر من إطلاق الحملة.
قررت لجنة أن تذهب لاستطلاع آراء النساء في المنشورات والملصقات التي وزعت. والتي كانت تظهر سيدتين: ما يُطلق عليه شعبيا باسم "الهانم" وهي سيدة مهندمة رشيقة تجلس سعيدة وحولها ولد وبنت. وأخرى سمينة يبدو عليها الكبر مزينة بالذهب وحولها أبناء عدة من أعمار مختلفة أكبرهم رجل وأصغرهم طفل. وكانت الرسالة المكتوبة تتغنى بقدرة الأولى على الحفاظ على صحتها وشبابها والاعتناء بطفليها خير عناية.
لكن اللجنة اكتشفت أن النساء في تلك المناطق رأوا الأمر بعين مختلفة..
"شوف يعيني الست دي هفتانة وكئيبة لأن معندهاش عيال -قالوا عن صورة "الهانم" بشفقة- بينما التانية اسم النبي حارسها عندها عزوة وأهي ماليه هدومها وفرحانه بيهم قوي".
هذه هي مشكلة "الخبراء" عندما يأتون من أبراجهم العاجية ويحاولون تسويق أفكار على بيئات لها مفاهيمها ولها لغتها ولها قوالبها الذهنية. أدرك المسؤولون يومها خطأهم يوم استعانوا بخبراء من القاهرة ولو استشاروا إعلاميا مبتدئا من تلك البيئة لاستطاع التفوق على فكرتهم وهو ما اعترف به أستاذنا ضمنا في مثاله الذي استقر في مخيلتي وأعده قاعدة أقدمها لكل من يتصدى لهذه المهنة.
في الخليج هناك مئات الآلاف من الخبراء يقدرهم الباحث الكلباني بـ400 ألف خبير. لديهم سيرة ذاتية مبهرة وجديرة بالإعجاب لكن هذا لا يعني بأي حال أنهم سيمثلون إضافة لنا.. ربما في المجالات الطبيبة أو المتعلقة بالحسابات أو كل ما يمت بصلة للمعادلات والأرقام الصماء. أما عندما يتعلق الأمر بالبشر، وبنمط حياتهم وقوالب تفكيرهم فأهل مكة -وحدهم- هم الأدرى بشعابها.
أقول هذا "شماتةً" في أصدقاء خالفوا نصيحتي، وأوكلوا لمكتب في الولايات المتحدة مهمة إعداد دراسة جدوى حول وكالة تجارية وكانت النتائج نظرية. ودفعوا مقابلها 20 ألف دولار "ما يقارب 7 آلاف ريال عماني". لتقول لهم الدراسة ما يستطيع أصغر مكتب هنا قوله مصحوبا في الغالب بإرشادات وأرقام أكثر واقعية. لكن مطربة الحي لا تطرب في محيطنا الجغرافي وإن كان صوتها عذبا. لذا تموت المطربة كمداً ولا تتألق المطربة "المستوردة" كما يجب فتخرج الأفراح باهتة، بلا ذوق ولا طعم والمعنى في قلب الشاعر.