علي ناجي الرعوي
يبدو أن الحرب في اليمن بشكلها الذي بدأت به قبل أكثر من ثلاثة أعوام تحت غطاء إعادة «الشرعية» إلى الحكم في صنعاء قد انتهت لكنها بدأت بقالب جديد على شكل مجموعة من الحروب المتناسلة لتصبح معها الحرب الواحدة حروبا متعددة تتفاقم وتتدحرج فوق رؤوس اليمنيين ككرة الثلج وهذه الحروب التي تشتعل بأنماطها المختلفة في أكثر من منطقة وأكثر من جبهة بين أطراف متناقضة ولأسباب متناقضة أيضا هي كما يعتقد البعض لا صلة لها بمسألة إعادة «الشرعية» المعترف بها دوليا إلى سدة السلطة أو بهزيمة خصومها حركة أنصار الله ولا بأي شكل من أشكال النزاع على السلطة والذي يعد تقليدا يمنيا منذ أزمنة سحيقة وهو ما يجعل من هذه الحروب ليس أكثر من مرآة عاكسة ورجع لصدى الصراع والتنافس المحتد بين الأقطاب الإقليمية والدولية على النفوذ ليس في اليمن فحسب وإنما على المنطقة ككل.
لقد جرت خلال سنوات الحرب الدائرة في اليمن منذ نهاية مارس 2015م مياه كثيرة شهد معها هذا البلد العديد من الأحداث العاصفة التي أفلتت معها خيوط هذه الحرب من أيدي المتصارعين المحليين الذين أدركوا وبعد فوات الأوان أن ما يجري في بلادهم وبعد كل تلك السنوات العجاف ليست حربا طبيعية يتحكم في إدارتها طرفان مختلفان أو متنازعان على السلطة وإنما هي حرب تتداخل فيها عدة حروب مسيرة وتتحكم فيها أطراف إقليمية ودولية حلّت محل طرفي النزاع الداخلي ليتلاشى البعد الوطني تحت ضغط الأجندات الإقليمية والدولية الكامنة وراء الحرب سيما أن ذلك البعد الوطني أصبح غير قادر على الصمود أمام الشراهة المتصاعدة لبعض القوى الإقليمية والدولية التي يتحين كل منها الفرصة لتثبيت موطئ قدم له في جنوبي الجزيرة العربية أو على البحر الأحمر وطريق المحيط الهندي أو في الممرات المائية والمضائق الاستراتيجية القريبة من السواحل اليمنية.
مما لا شك فيه أن هذا الأمر كان صادما ومفاجئا للعديد من الأطراف اليمنية ومنها تلك الأطراف التي أيدت إعلان الحرب ووقفت إلى جانب تدخل التحالف العربي العشري عسكريا في هذه الحرب حيث لم يخطر على بال أي من هؤلاء أن تلك الحرب التي عمّت اليمن طولا وعرضا هي من قد تتناسل ذاتيا وتتوفر لها المبررات لاجتذاب الاتباع والمنقادين لأسباب اشتعالها كما لم يكن في وارد أكثر المتفائلين أن يغدو قرار الحرب والسلام في اليمن بيد الأطراف الخارجية والتي أصبحت عمليا تنوب عن اليمنيين في كل ما يتعلق بتحديد مصيرهم ومستقبل بلادهم.
كان من الطبيعي في ظل هذه الظروف المعومة أن تفقد القوى الداخلية قدرتها على لعب أي دور وأن تتحوّل إلى مجرد أدوات بيد الأطراف الإقليمية والقوى الدولية التي لا تهمها سوى مصالحها وبلوغ أهدافها من وراء الحرب في اليمن والحروب المتناسلة عنها.. ولئن كانت المشكلة الرئيسية في أن الأطراف الداخلية قد عوّلت كثيرا على حلفائها الخارجيين في تشكيل موازين القوى لصالحها فإن هذه المشكلة تصبح بمثابة معضلة كبرى في ظل عدم استيعاب تلك الأطراف التي تتصرف بنظرة براغماتية بحتة من أن القوى الخارجية التي تتصارع في اليمن لا تكترث بالدمار الذي تخلّفه الحروب والصدمات ومحفّزات العنف التي تتكاثر كالفطر ولا تأبه بالدماء التي تنزف بغزارة من أجساد اليمنيين، كما لا يعنيها من قريب أو بعيد البحث عن الخيط الرفيع الذي يمكن أن يجمع أبناء هذا البلد تحت خيمة واحدة بقدر اهتمامها بتوظيف الصراع القائم على الأرض اليمنية ضمن دوائر ومصالح وصراع أوسع يستخدم فيه ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي في نفس الوقت.
ليس جديدا القول إن الحرب التي اندلعت في اليمن قد نشبت في الأساس على خلفية صراع إقليمي ودولي حتى وإن كان السبب المعلن لها هو إعادة «الشرعية» إلى الحكم، وبات من المعروف أيضا أن مسارات هذه الحرب صارت مرهونة بيد الدول الكبرى ووكلائها في الإقليم وأن هذه الدول هي فعلا من تضبط إيقاع الأحداث في اليمن وكذا معظم الأحداث في المنطقة والعالم بحسب الحاجة السياسية لكن ما يميّز الحالة اليمنية عن غيرها في ظل الصراع بين هذه القوى الكبرى على النفوذ في المنطقة أنها التي تنظر لليمن في الوقت الراهن كساحة مناسبة لتصفية حسابتها القديمة والجديدة مع بعضها البعض من ناحية ومع خصومها الإقليميين من ناحية أخرى ولذلك عمدت الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها على وجه التحديد إلى استخدام الحرب في اليمن بشكل لا لبس فيه ضمن صراعها مع إيران وقد تضاعف هذا الأمر على نحو واضح بعد قرار ترامب التنصل عن الاتفاق النووي مع طهران.
وأمام سيطرة القوى الإقليمية والدولية على مجريات الحرب واستمرارها فقد تشعبت الخلافات بين الخصوم كما هي بين الحلفاء في الداخل اليمني لتشتعل على إثرها حروب جديدة بين المتقاتلين على التفرّد بالسلطة وبين المتقاطعين فكريا أو مذهبيا وبين الأحزاب الكبيرة التي انخرطت في العداوات ويسعى كل منها للحصول على الحصة الأكبر من فوائد الحرب واستحقاقات السلام وأكثر من ذلك فقد جرى تفتيت النسيج الاجتماعي وضرب كل فكرة تحاول جمع شمله وتوحيد مكوناته وتحقيق المصالحة بين فئاته حيث هاجت الفتن والحروب في كل مناطق اليمن فهناك اليوم حروب في المناطق الواقعة تحت إدارة الشرعية كما هو الحاصل في عدن التي يعترك فيها أكثر من فصيل وهناك حروب تنشط حينا وتخمد أحيانا أخرى في الجنوب والشمال على حد سواء وكأن الهدف هو الإبقاء على كل مناطق اليمن مشدودة للحرب وأسيرة لها.
وأمام هذا الوضع فليس مستغربا أن نجد المبعوث الأممي مارتن جريفيث الذي كان يتحدث عند تعيينه خلفا للموريتاني إسماعيل ولد الشيخ عن خطة شاملة لحل الأزمة اليمنية أصبح يتحدث في الأيام الأخيرة عن خطة جزئية لحل أزمة الحديدة وتجنيبها تداعيات الخيار العسكري وما قد يترتب عليه من كارثة إنسانية وفي ذلك إشارة واضحة على الحال في اليمن والذي أصبح يتسم بالغرابة والطرافة أن لم يغد كنموذج جلي لكوميديا سوداء تبعث على الرثاء والفكاهة إلى حد البكاء.