المثقف والمجتمع

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٧/يونيو/٢٠١٨ ٠٤:٥٢ ص
المثقف والمجتمع

فريد أحمد حسن

الإبداع لا يحدث في بيئة غير مستقرة، فغياب الاستقرار يعني بالضرورة غياب الإبداع، وغياب الإبداع دليل وجود بيئة غير مستقرة. هذه حقيقة مؤكدة ولا يمكن لأحد أن يقول بعكسها أو يشكك فيها، فالارتباط هنا شرطي. كيف يمكن لشخص يفتقد الاستقرار أن ينتج ويبدع؟ نعم هناك استثناءات وحالات شاذة لكن في المجمل لا يمكن للإبداع أن يحصل وينمو في بيئة غير مستقرة. بناء على هذا يمكن القول بأنه لو أن جهة ما قامت بعمل دراسة طولية تتبعت فيها أحوال الإبداع في دول بعضها يتمتع بالاستقرار وأخرى تفتقده لتبين لها بما لا يدع مجالا للشك أن الإبداع كان من نصيب الدول التي كانت تتمتع بحالة الاستقرار، وأن مستوى الإبداع بين النتاج الذي يمكن تصنيفه في باب الإبداع أقل في الدول التي كانت تعاني من حالة عدم الاستقرار.

هذا يفسر أيضاً سعي مريدي السوء في أي مكان إلى ضرب الاستقرار في أي بلد يريدون الإساءة إليه والذي يبدأ عادة بتخريب الاقتصاد وزرع الفتنة بين مواطنيه، فهاتان أداتان تنتجان حالة عدم الاستقرار المنشودة فلا يستطيع أحد إنتاج أي مفيد ولا يستطيع أحد أن يبدع في أي مجال.كانت بيروت عاصمة الكتاب، فيها يطبع وينشر وفيها تقام معارضه بسخاء وإليها يسافر كل متعلق به وكل عارف بقيمته. تم استهدافها فدخلت في حالة عدم الاستقرار فلم تعد علاقتها بالكتاب كما كانت وحلت محلها دول أخرى تتمتع بالاستقرار. وكانت دول مجلس التعاون تعاني من قلة إنتاج الكتب - والتي هي إحدى صور الإبداع - فساعدها الاستقرار الذي تتمتع به على تحقيق معدلات إنتاج لافتة، والمقارنة بين أرقام الكتب التي تم إنتاجها في عقود فائتة، وتلك التي يتم إنتاجها اليوم في مختلف دول المجلس تؤكد هذه الحقيقة التي تتأكد أكثر لو أن التغيرات المتسارعة التي تعاني منها المنطقة اليوم أثرت سلباً على هذا الحرك الثقافي، وهو المتوقع حصوله، أي أن النتاج سيقل ولن يجد الإبداع البيئة الحاضنة التي لا يمكن أن ينمو ويترعرع في غيرها. وللأسف فإن مؤشرات كثيرة تعين على الاتجاه نحو هذا التصور السالب.

لو أن الأحوال الحالية التي تعيشها دول مجلس التعاون اليوم استمرت على ما هي عليه من دون تغيير لمدة عشر سنوات قادمة فإن النتيجة المنطقية لحالة الإبداع ستكون من دون شك لصالح سلطنة عمان كونها الدولة الخليجية الوحيدة التي لا تعاني اليوم من الذي تعاني منه شقيقاتها، فما فيه الدول الخليجية الأخرى لا يصب – لو استمر – في صالح الإبداع ويؤدي إلى تلك الحالة التي لا تليق بهذه الدول والتي سبقها إليها دول عربية لأسباب تتعلق بالتحزب وبالحروب وبالصراعات التي لم يستفد منها أحد وعادت بالسلب على الجميع.من هنا فإن مسؤولية المثقفين في دول مجلس التعاون تتضاعف، حيث عليهم أن يمارسوا دورا يتصف بالإيجابية كي يمنعوا تدهور الإبداع وغياب بيئته، وأول ما عليهم أن يقوموا به هو منع الاستمرار في حصول الانشقاقات بين الأهالي، أي العمل على منع حصول الفتنة التي يستفيد منها مريدو السوء ويتمكنون من تحقيق أهدافهم. ولأن هذا الدور لا يمكنهم القيام به إن لم يكونوا مثالا فإن كل ما يأتي منهم لا فائدة منه. لا يمكن للناس أن يسمعوا من المثقفين إن لم يكونوا مثالا وقدوة. كيف يمكن أن يستجيبوا لما يدعون إليه وهم يمارسون نقيضه؟عندما يدعو المثقف إلى نبذ الفتنة فإن عليه قبل هذا ألا يكون شريكا فيها ونابذا لها، وعندما يدعو إلى محاربة الطائفية فإن عليه قبل هذا أن يوفر الدليل على أنه غير طائفي، وعندما يدعو إلى محاربة الإرهاب فإن عليه أن يعمل بجد واجتهاد في محاربته ويوفر الدليل على ذلك. الجمهور لا يمكن أن يسمع من المثقفين لو كانوا يفعلون نقيض ما يدعون إليه أو حتى يشك في فعلهم. وعندما يحدث هذا يكون المثقفون قد حكموا على أنفسهم بالعزل والدخول في البيئة غير المستقرة التي لا يمكن لهم أن يبدعوا فيها فيكونون قد أضروا بالمجتمع وبأنفسهم وبإبداعاتهم التي ما كان يمكن أن يكون هكذا مصيرها لو أنهم كانوا موجبين وعملوا على منع مريدي السوء من أخذ الناس إلى حيث البيئة غير المستقرة.سلبية المثقفين هم الأكثر تضررا منها، وسلبيتهم تعني إغراق الناس في بيئة لا تعرف الإبداع ولا العطاء ولا أي فعل موجب، ما يؤكد أن المثقفين هم مفتاح مهم من مفاتيح المجتمع وأن بإمكانهم أن يرتقوا بالمجتمع أو أن يدمروه، وبإمكانهم أن يعملوا على إيجاد البيئة المناسبة التي تعينهم على الإبداع والعطاء والمساهمة الفاعلة في الارتقاء بالناس وقبله بحمايتهم.بالتأكيد فإن هذا الذي على المثقفين أن يقوموا به ليس دورهم وحدهم، فالآخرون أيضا عليهم واجبات ومسئوليات، لكنهم ولأنهم في المقدمة يبدون الأبرز ومن عليه تحمل المسئولية الأكبر. هو دور تاريخي ينبغي من المثقفين إجمالا أن يقوموا به في مثل هذه الظروف التي تمر بها الأمة العربية وتمر بها بلدانهم، سلبيتهم فيها تضر بمجتمعاتهم وبأوطانهم وبهم، وإيجابيتهم تعني الإسهام بفاعلية في المحافظة على استمرار توفر البيئة المستقرة والتي من دونها لا يمكن للإبداع أن يعيش وللحياة أن تزدهر.

كاتب بحريني