بصمة على أول صفحة

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠١/مارس/٢٠١٧ ٠٤:٥٥ ص
بصمة على أول صفحة

في حياة المشتغلين بالكتابة أمنية تراودهم منذ البدايات: أن يقف قارئ أمامه ذات يوم من العمر ليوقع إصداره الأول، واضعا بصمته على بياض الصفحة الأولى من الكتاب/‏الحلم، حينها تغدو الأمنية القديمة هابطة كنجمة من سماء التخيل إلى أرض الواقع، مع أن السماء تبدو مفتوحة أكثر للتحليق أمام الكاتب، في لحظته تلك.

وفي مسيرة معرض مسقط الدولي للكتاب نشهد مع كل دورة جديدة (انفجارا) في التأليف إن قورن بالدورات السابقة حين كان يندر أن نسمع عن حفل توقيع كاتب لإصداره، والملفت أن (المؤلفين الجدد) تكاثروا حتى غطى حضور (بعضهم) على سابقيهم من أصحاب التجارب، حيث الفارق شاسع بين من عرف الطريق، متحمسا، للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي محتفلا بمولوده الأول، ومن تشبّع بلحظات سابقة، وإصدارات أصبحت متواترة، واحدا إثر آخر، فلا وجود لتلك الحماسة (الشبابية) في عالمهم الافتراضي.
قبل عامين أصر شاعر معروف على طباعة مختارات من نصوصه، وتجاوزت الرقابة قليلا عن بعض ما لم يعجبها، وفي حفل التوقيع لم يحضر سوى مجموعة أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، بينما هناك (شباب) يقدمون تجاربهم الأولى أو الثانية، وعلى بساطة لغتها إلا أنها تقوم بالتوقيع يوميا لعشرات يقصدونها حيث تزور جناح العرض باستمرار، لثقتها أن هناك كاتبا ينتظر توقيعا.. على أول صفحة.
توقيع يضع حروفه المرتعشة بالفرح، بقلم كاتب/‏كاتبة في حالة من الانتشاء المبهج بأن الصعب ممكن، وأن الصفحة الأولى في بياضها مفتوحة على بهاء السعادة، طالما أن الطريق مفتوح للانطلاق، رضي النقاد عن تجربتهم أو سخطوا، وقف الكبار معهم أو حسدوهم، لا يمكن انتظار التقييم، إذ القطار مسرع، والمحطات بها متسع للجميع، كي يمضوا في ذات القطار، تقدم البعض في العربات الأولى، أو تراجعوا بمحض إرادتهم، أو لظروف قاهرة، إلى العربات الأخيرة، يجرّون إحباطاتهم وتداعيات حياتهم.
ذلك فارق مهم في التجارب بين أجيال، ربما لا يفصلها عدد واسع من السنين، لكن التعاطي مع الكتابة كحالة فرح يختلف عن النظر إليها كعلامة مقلقة، ومع تمدد العمر يصبح التأليف (لدى الغالبية) ثقيلا، خاصة في هواجس الرغبات والممكنات والظروف المحيطة، والضغوط الحاثة على الانشغال بأحوال أخرى عدا الكتابة المشاغبة، لأن الرقيب تناسخ، والرقيب الاجتماعي له أسنان حادة، حيث يمكنه تقطيع فريسته عبر وسائط التقنية الحديثة دون أن يضع دليلا يرشد إليه.
كان أمامي ثلاثة من الشباب يضعون بصماتهم على الصفحات الأولى من إصداراتهم، وهدايا الورد وعلب الشكولاتة تحيل الحالة إلى حفل ميلاد حقيقي، وكان أحد الأصدقاء المشاغبين ينتقد حالة الطباعة لأي كان، قلت له: دعهم يعيشون سعادتهم، هناك تاريخ سيذهب بالطالح إلى النسيان، والصالح سيبقى، لسنا وحدنا من يقرر نيابة عن الآخرين.