في العلاقة مع الكتب نجد بالصدفة (حينًا) كتابًا نستبقيه بين أيدينا نغترف من كلماته حتى نؤجل كل أمر آخر، وربما نسهر معه حتى الفجر، و(أحيانًا) نقتني كتبًا عن سبق إصرار وترصد، فإذا بها تلعب دور "المنوّم" أو الجليس المضجر حتى تتمنى أنه لو يفارق جلستك، متحسرًا على مال ضاع في شراء ما لا يستحق.
المفارقة أنك ما رأيتَه جاذبًا وممتعًا، من هذه الكتب، يراه آخرون مضجرًا، والعكس دلالة العكس، فخطوط التماس بيننا وخير جليس ليست متشابهة، فهناك محددات داخلية تجعل من الكتاب شهيًا أو يصيب بعسر الهضم/ الفهم، كالفارق بين أن تقرأ ديوان شعر لنزار قباني أو كتابًا فكريًا لمحمد أركون، وقد يصبح التشبيه فارقًا أيضًا حتى في العمل ذاته، فرواية لنجيب محفوظ لا يقرأها اثنان بمزاج واحد، أحدهما يقول مدهشة، والآخر يعتبرها مملة، وثالث لا يعدّها إلا تكرارًا حكائيًا يخرجها من دائرة الرواية الحديثة.
قبل أسابيع منحني أحد الأصدقاء فرصة قراءة روايتين لكاتبين عمانيين، وقد نالا صدى على مواقع التواصل الاجتماعي، واحدة وجدتها جميلة بما يكفي أنني أنجزت قراءتها في أيام قلائل، بينما الأخرى لم أستطع (إنجاز) قراءة أكثر من ثلاثين صفحة، ليس لأن الفكرة غير مثيرة، ولكن الارتباك اللغوي وضعف بناء الجمل حالا دون المضي فيها، فالبناء الروائي يعتمد على اللغة (الجميلة) قبل أي شيء آخر، ولا أقول اللغة الأدبية السليمة، القادرة على حذف (الحشو) المتناثر فتكون الجملة طويلة فوق قدرة القارئ على أخذ أنفاسه منتظرًا متى تنتهي هذه العشوائية في البناء!
قرأت، عبر مشواري مع خير جليس، كتبًا لم تكن جاذبة، لكنها تحتاج إلى كثير من الصبر، وبينها روايات يفترض أنها محسوبة على النوع الأدبي المحبب للقراءة، إنما تلك المقاومة مفيدة في تعلم أشياء من بينها أن المرء لا يقرأ ما يروقه فقط، والسهل الذي يسليه أكثر مما يفيده، فالعمل الأدبي الدسم قادر على مدّ القارئ بمعرفة تثير الأسئلة الفكرية داخل مخيلته، تضع الحياة أمام عينيه بأفكار عميقة، لا تلامس السطح فحسب، تتيح له قراءة عمقه أولًا، وما حوله ثانيًا وعاشرًا، وتعطيه المزيد من الرؤى حول أشياء يظن أنه يفهمها ولكنه لا يستطيع ملامستها بالعلم، وأخرى خفية عليه، فيدهش أنها تطفو قريبة منه كوردات تعبر النهر أمام عينيه.
في الطفولة كانت دواوين الفترة العباسية أقرب إلى ذائقتي، حيث سهولة اللفظ وقرب المعنى، وانشغلت بحفظ قصائد الشعراء العذريين، بينما بقيت المعلقات عصية على فهمي في أغلب أبياتها، ولو يعود الزمن لركزت عليها أكثر من غيرها، لأن زادها اللغوي عميق، كما هو حالي مع روايات إحسان عبد القدوس، الصراع النفسي للشخصيات شدني أكثر من فخامة اللغة وهي ترسم الأحداث.
كما بقيت الروايات الكلاسيكية، ومن بينها المترجمة، زادي القرائي اليومي، حيث "الشغف" معها أقوى لما يتماس في الحياة حولي من تأثيرات تتفاوت بين الواقع والمتخيل.