.. ورحل «الساحر»

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٥/نوفمبر/٢٠١٦ ٠٤:٠٥ ص
.. ورحل «الساحر»

محمد بن سيف الرحبي

كانت فرصة جميلة أن ألتقي الفنان الراحل محمود عبدالعزيز وأساله بعد سنوات من الغياب عن الدراما، هل يشكل النجاح عقدة في استمرارية الفنان، خاصة أنه بعد «رأفت الهجان» بقي يخشى على نجاحه من أعمال يتراجع فيها عن قمة الهرم /‏ الأداء الفني ومستوى العمل، بهكذا رؤية سنفقد وجود قامات فنية تبقى رهينة تألقها في عمل درامي، بينما تحتاج «الشاشة الفضية» لأعمالهم وسط ركام الثرثرة.

أجاب «الساحر»، وهو في مسقط لعرض فيلمه الذي يحمل الاسم ذاته مثنيا على السؤال، أنه فعلا يصبح العمل الناجح معضلة أمام أي فنان، لأنه يخشى على ما بعد هذا النجاح مما قد يصيبه من تراجع حيث يخشى المغامرة في الأقل جودة.
بعد فيلمه «إعدام ميت»، وقد قام بدور رجل مخابرات مصري، بقينا لعدة سنوات نتابع مسلسل «رأفت الهجان» في أجزائه المتواترة والمتوترة، حكاية بطلها الأول محمود عبدالعزيز، الأداء المتفوق على نفسه، نعيش معه حالات التوتر وكأنه حقا أمام مهمة وطنية تستوجب السرية، ونخشى عليه من انكشافه أمام العدو الصهيوني المغتصب فيضيع نصرا عربيا في التفوق على الموساد، جهاز المخابرات الذي يعجز الشيطان عن ارتكاب ما ارتكبه من فظائع يفتخر بها.
فـــي أدوار كثيـــرة أداها على الشاشتين، الكبيرة أو الفضية، كان محمود عبدالعزيز قريبا من الموت، النجم الأبرز في مسار الدراما العربيـــة المعاصرة، وأعتبره الأفضل، كونه المترفع عن الإسفاف و»التهريج»، وبقــي حتى «رأس الغول»، مسلسله الأخير، سيد الغول المبهر بحضوره على الشاشة، المعلم الذي يجبرك على احترام أدائه، كما يجدر باختياراته.
شاهدت «الكيت كات» عدة مرات، وكلما وجدته معروضا في قناة ما أبقى أتابع ما استطعت من مشاهد، كيف يغدو البطل (على الشاشة) بطلا حقيقا في الحياة الهامشية، حيث الناس البسطاء ساكني الحارات المتكدسة بالبشر والهموم والرغبات، الشيخ حسني الذي ينسيك أنه محمود عبدالعزيز الفنان القائم بالدور، «أنا بشوف أحسن منك في النور والظلمة وانت بتستعماني يا صبحي»، فيبهرك هذا الأعمى، كما يفعل الساحر، بضغط الحياة عليه، بواقعية «سحرية» فيها تلك اللمسة المصرية مكتوبة بهم المواطن البسيط.

مع أن الموت حق، ولا مفر منه، لكن الرجل السبعيني كأنه باغتنا بموته، رأيناه البطل دائما، والبطل لا يسقط هكذا فجأة، «بنخاف من الموت ليه، كلنا متنا كذا مرة، بس مفيش أغلى من الحياة»، هكذا يبدو مواجها الموت في مسلسل جبل الحلال من خلال مشهد تمثيلي مع الفنان مظهر أبو النجا يتحدث في شخصية «أبو هيبة»، بطل المسلسل، فلسفة وجودية في مواجهة الموت: «متخافيش على أبو هيبة يا حامد.. اللي شاف الموت ميخافش منه.. أصلي شفته وعرفته أقسم بالله شفته وهو جاي عشان ياخد عمري.. حسيت إني طلعت لفوق لفوق لفوق وشفت الأرض كأنها حبة رمل ماتسويش.. وتحس إنك خفيف خفيف والموت حنين وعمال يطمنك.. وشفت قدامي شريط بيدور زي البكرة مابيقفش .. الشريط كله صور وأنا هنه وأنا في الجيش وأنا في البلد وأنا بقع والنار زي العود في جسمي.. اللي يحس الموت ويصاحبه بتتغير حياته».

هكذا ودع الحياة الساحر العجيب، «أول ما تفتح عينك الصبح لازم تشكر ربنا وتسلم على الشمس وتسلم على الوكل وتسلم على الشجر وتسلم على الزرع وتسلم على قميصك اللي انت لابسه».. فسلام لك وعليك أيها الرائع الراحل.