كيف نبدع في تنفيذ المرحلة الثانية من"تنفيذ"

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٩/سبتمبر/٢٠١٦ ٠٦:٠٢ ص
كيف نبدع في تنفيذ المرحلة الثانية من"تنفيذ"

محمد بن محفوظ العارضي
رئيس مجلس إدارة البنك الوطني العُماني

لا يذكر التاريخ أن أمةً ما استمرت بنفس النظام الاقتصادي والاجتماعي أو حتى الثقافي وحملته معها أثناء تنقلها من مرحلة زمنية نحو أخرى، فالضرورات التي تحدد شكل النظم التي تقوم عليها الدول، هي نتاج خاص لمرحلة تاريخية بعينها ولواقع بعينه، يعني أنها تتغير وفقاً للشروط الطبيعية التي تمليها كل مرحلةٍ على حدة.
إن صراع الأمم في سبيل وجودها، وفي سبيل الارتقاء بشكل هذا الوجود، شكّل عبر التاريخ حافزاً رئيسياً للتطور، وإن كانت السياقات العادية للتطور تمر أحياناً بظروف سلسلة وطبيعية، إلا أن القفزات من حالة إلى أخرى جاءت دوماً نتيجة لحسم هذا النوع من الصراع لصالح العنصر الواعي في هذه المعادلة ألا وهو الإنسان. وما شكلته المرحلة التي تلت الأزمة المالية العالمية عام 2008، وما تلا هذه الأزمة من تباطؤ في النمو وضعف الطلب على المواد الخام وأولها النفط، ليس إلا تغير بنيوي في طبيعة الظرف التاريخي للدول التي اعتمدت لسنوات طويلة على هذه السلعة كمورد أساسي للدخل، وأبقت على الموارد الاخرى والطاقات الأخرى شبه مجمدة وغير مفعلة.
فهل نلعن الظرف التاريخي؟ أم نشعل في نفوس الناس الثقة بطاقاتهم وبقدراتهم على إحداث التغيير؟
لقد اختارت سلطنة عمان، ممثّلةً بإطار مشترك يجمع بين مؤسستها الرسمية ومؤسسات الاقتصاد في القطاعين العام والخاص وخبراء وأكاديميين وممثلين عن الهيئات المحلية والمجتمع المدني، أن تشعل الطاقات الكامنة وتسخّر الموارد المحلية للقفز بالاقتصاد الوطني من مرحلة الريع والاعتماد على النفط إلى مرحلة جديدة من التنوع في مصادر الدخل. وبدأت جلسات العصف الذهني تستحث العقل وتطلق المخيلة للخروج بأفضل ما يمكن لتنفيذ هذه المهام.
نبدأ بالسؤال عن مدى الصلاحيات الممنوحة لهذا الإطار المشترك وعن مدى قدرته في تأسيس هيئة تضم ممثلين دائمين عنه أو تفوض من يحل محلها من الهيئات القائمة لمتابعة ما يتم الاتفاق عليه من المرحلة الثانية من البرنامج الوطني للتنوع الاقتصادي "تنفيذ".
هل هذه الشراكة قادرة على اجتراح آليات مطلقة بدون قيود للمحاسبة والحوكمة التي تنظّم عمل القطاعين العام والخاص عبر تشريعاتها وقوانينها الخاصة ؟ وهل هي قادرة على تحقيق استقلاليتها في اتخاذ القرارات وصياغىة التصورات بمعزل عن تأثيرات الثقافة ذاتها التي كانت سائدة في المرحلة السابقة؟
إن التحول من هيكل اقتصادي لآخر، متكامل القطاعات، ومرتبط بالرؤية الوطنية، ومجرد من الذاتية والفردية التي أسستها عقود من الاستناد لثقافة السوق الحر، والاتكال على مقولات الرأسمالية التقليدية بحرية السوق والتفرد به من قبل الاحتكارات الاقتصادية الضخمة، يعني تبّني ثقافة تنموية جديدة، تغلّب العام على الخاص، وتقّر للمجتمع بمكانته كمالك حقيقي للمؤسسة مهما كان نوعها حتى لو كانت ملكيتها خاصة ومحدودة، فطالما أن المؤسسة أو الشركة تعمل في بلد ما، تستفيد من مصادره وبنيته التحتية، وتستفيد أيضاً من مواطنيه كمستهليكن، وتحدث تغييرات جوهرية في المناخ والبيئة والمظهر الجغرافي، فهي إذاً ملكية جماعية في غاياتها وأهدافها التي يجب أن تصب في صالح التنمية الاجتماعية، وهي خاضعة للرقابة والمحاسبة والحوكمة بدون أي تحفظ.
إذاً، المدخل الحقيقي للتنفيذ المبدع لبرنامج التنوع الاقتصادي، يبدأ من إعادة هيكلة الاقتصاد، ومن إبداع آليات جديدة ومؤسسات مستقلة ذات صلاحية للمحاسبة والرقابة والتشريع في الشأن الاقتصادي بشكل خاص.
لقد أثارت مسألة الاستعانة بالخبرات الماليزية جدلاً واسعاً في المجتمع العماني، وعبّر هذا الجدل عن مخاوف مشروعة حول تكلفة هذا المشرف الأجنبي، وطبيعة تصنيفه وهل هو يمثل القطاع الماليزي الخاص أم الحكومي.
من الطبيعي أن تتبادل الأمم الخبرات من أجل بناء تجاربها الخاصة، وهذا يعني أن الاستعانة بالخبرة الماليزية قد توفر علينا الكثير من الزمن في ممارسة حظوظنا من التجربة والخطأ حتى نصل للشكل الأمثل في إدارة اقتصادنا. لكن يجب مراعاة ألا تكون فاتورة التخطيط لتنفيذ البرنامج الوطني للتنوع أعلى من فاتورة تنفيذه. كما يجب مراعاة خصوصية اقتصادنا الوطني.
ويجب الانتباه إلى عدم اتباع الأنماط ذاتها في تبني السياسات المالية على وجه الخصوص. هناك من يعتقد أن المؤسسة المالية الغربية نموذجه الأمثل، وقد يكون هذا الاعتقاد نتيجة طبيعية لهيمنة ثقافة هذه المؤسسة وليس لإنجازاتها.
إنني أثير هذه القضية بالذات، لأنني على قناعة بأن الخطوة الأولى في مسيرة التحول من اقتصاد الريع لاقتصاد الإنتاج تبدأ من الثقة بالذات، ومن إدراك حقيقة أن كل أمة قادرة على صنع تجربتها الخاصة بها وتحقيق النجاح.
صحيح أن العالم أدرك مبكراً أهمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة إلا أن التركيز على أهمية هذه المشروعات في الآونة الأخيرة جاء نتيجة للاختلال الملحوظ في السيطرة على الأسواق، فمعظم أسواق العالم تسيطر عليها شركات وماركات عالمية معروفة، حجزت حصتها الكبيرة من السوق وتدافع عنها بشتى السبل وتمنع إشراكها حتى مع الدولة المضيفة. هذا الاختلال تسبب في الهيمنة الاقتصادية والثقافية وفي التفاوت الاجتماعي أيضاً.
تشكل هذه المؤسسات ما نسبته 90% من الاقتصاد العماني، لكن نصف هذه المؤسسات لا يستفيد من التمويل لضعف الضمانات التي يمتلكها أصحابها او الراغبين في إنشائها. وهنا نحتاج إلى الابتكار قليلاً في التمويل وفي دور المؤسسة المالية، فبدل أن تكون مقرضة، لتكن شريكة تتقاسم حصة من الربح مع أصحاب المشروع ذاته، وهكذا تتم مشاركة المخاطرة بدل تحميلها لطرف دون آخر، ويسعى الطرفان أيضاً لضمان نجاح المشروع مستفيدين من توجهات السوق وضغط القطاع المالي نحو تقديم الإنتاج كأولوية للدعم والتمويل.
صحيح أن هذه الآلية في دعم هذه المشاريع تستطيع اجتذاب قدر كبير من الطاقات الاجتماعية المعطلة، ولكن يبقى أن تتمكن من منافسة الشركات العالمية الكبرى، لذا بات من الضروري بحث إمكانيات دمج المشروعات القائمة وإنشاء تعاونيات بملكية اجتماعية واسعة، بحيث لا تبقى هذه المشاريع أسيرة لتسميتها أي صغيرة، بل تكبر حتى تكون قادرة بالفعل على امتلاك حصة كبيرة من الاقتصاد الوطني.
هذه بعض الملاحظات السريعة التي قد ستفيد منها ورشات العمل أو مختبرات العصف الذهني. والملاحظات لا تنتهي، وسنتابع من خلالها كافة المستجدات في مقالات قادمة، فالقضية الاقتصادية اليوم بالذات تعتبر مصيرية، وعليها يتوقف مدى استقرارنا الاجتماعي والسياسي، ومدى حصانة السلطنة في وجه الرياح التي تعصف بالمنطقة.